لازال الأردن يعيش تداعيات رحيل زعيم تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين. فمنذ الإعلان عن نبأ اغتياله من قبل القوات الأمريكية في العراق وبتعاون أردني, قامت الأجهزة الأمنية الأردنية باعتقال أربعة نواب إسلاميين ينتمون إلى "جبهة العمل الإسلامي" في الأردن على خلفية تقديم العزاء لعائلة الزرقاوي من قبل هؤلاء النواب. وقد اعتبرت الحكومة الأردنية ذلك نوعاً من التضليل وإثارة للنعرات بين المجتمع الأردني، وهو ما أكده الملك الأردني عبد الله الثاني في تصريح رسمي اعتبر فيه الذين يسمون الزرقاوي شهيداً أو بطلاً ب"المضللون"، وفي لقائه مع مجلة "دير شبيغل" الألمانية، قال الملك عبد الله: "ينبغي عدم إظهار التسامح مع الذين يتظاهرون في دعم الإرهاب .."، معتبراً نعت الزرقاوي من قبل بعض النواب الإسلاميين بالشهيد أو البطل هو تظاهراً في دعم الإرهاب، مما زاد في حدة التوتر بين الحكومة والتيار الإسلامي الذي يمثله الإخوان المسلمين, في ظل أجواء التصعيد الذي تمارسه الحكومة الأردنية, واستغلال تصريحات بعض النواب للضغط على التيار الإسلامي, والذي سبقه إصدار قانون مكافحة الإرهاب, والذي اعتبره الإسلاميين ضغطاً آخر من قبل الحكومة الأردنية موجهاً إليهم, من جانبهم اعتبر الناطق الرسمي للإخوان المسلمين من خلال تصريحه لوسائل الإعلام: "أن الحكومة تمارس التكفير السياسي على كل من يخالفها"، وانتقد الحكومة كونها تدين التكفير الديني وهي تقع بنفس الخطأ في ممارستها التكفير السياسي على الأخر. وبحسب بعض المراقبين، فإن الحكومة الأردنية ومنذ وصول حماس إلى السلطة مؤخراً في فلسطين, بدأت بافتعال الأزمات الواحدة تلو الأخرى, من اتهام حماس في تهريب الأسلحة التي تستهدف أمن الأردن, وأعقب ذلك اعتذار الأردن عن استقبال وزير الخارجية الفلسطيني محمود الزهار في أول زيارة له بعد تولي حماس للسلطة في فلسطين. هذه كلها خلفيات مهدت لهذا الحدث "وربما لا يكون الأخير" وأعطته أكبر من حجمه, في محاولة لتوظيفه في تضييق الخناق على التيار الإسلامي "الوسطي" في الأردن. وإلا ماذا يعني إطلاق كلمة شهيد أو بطل مقاوم من قبل أي عربي على شخص اختلف الناس في تصنيفه، منهم من وصفه "إرهابي" كالإدارة الأمريكية والبريطانية والحكومة العراقية وبعض الناس, ومنهم من وصفه ب"الشهيد" البطل المقاوم للغزاة, فهل تريد الحكومة الأردنية ومن ورائها الإدارة الأمريكية أن تفتح السجون لملايين الناس في العالم الإسلامي والعربي، ممن يختلفون معهم بالتوصيف. فهل يمكن تصور حمل الناس على شيء ورؤية واحدة في عالم الديمقراطيات المزعومة، قبل أشهر أسيئ لنبي الإسلام برسوم ساخرة فاجرة من قبل صحيفة دينماركية، فلما استنكر المسلمون على هذه الرسوم واعتبروها إهانة لرمز مقدس ديني, ثارت حفيظة الغرب وعلى رأسهم الولاياتالمتحدة, وقالوا نحن دول ديمقراطية، وهذه الأمور تندرج عندنا ضمن حرية التعبير الشخصي التي يكفلها الدستور، فماذا كان الموقف الرسمي العربي يومها ...؟ فإذا كان سب نبي الإسلام يدخل في حرية التعبير، فلماذا نعت الزرقاوي من قبل أربع نواب إسلاميين في الحكومة الأردنية يندرج في خانة الجريمة والتضليل، فأين أذن حرية التعبير؟! وتجدر الإشارة إلى أن أحد النواب المعتقلين، وهو النائب أبو فارس، قد تدهورت صحته ونقل إثر ذلك إلى أحدى المستشفيات القريبة من السجي الموقوف فيه. يعني للأسف أصبحنا نردد ما تقوله أمريكيا في كل شيء, وهي التي ضللت العالم كله بأكذوبتها الشاملة "بامتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل"، وخاضت حرباً عدوانية على شعب وبلد عربي مسلم أمن, ودمرته تدميراً وقتلت مائة وعشرين ألف مدني عراقي في عدوانها الذي وصفته بالتحرير, ولازال مسلسل القتل والدمار مستمراً ومنذ أكثر من ثلاث سنوات, وجعلت من العراق أكبر ساحة للإرهاب المنظم في العالم. ومع ذلك أمريكيا تصف عملها هذا ب"التحرير"، فهل من المعقول أن نردد معها ذلك، فأي تصرف أعظم جرما، النواب أم الأمريكان؟! لاشك أن مثل هذه الممارسات في بلد مثل الأردن, يدعي صيانة الحريات العامة وحرية التعبير، ويتبنى الخيار الديمقراطي وحرية الأحزاب, قطعاً سيكون مردود هذه الممارسات عكسياً، أدرك النظام الأردني أم لم يدرك. النظام الأردني يعلم جيداً أن التيار الإسلامي "المعتدل" في الأردن، والذي يمثله الإخوان المسلمين, شريك قديم في السلطة، وتاريخه في حفظ المصلحة العليا للأردن لا يزايد عليه أحد, وهو صمام الأمان للشارع الأردني, الذي تتصاعد فيه الأزمات الاقتصادية المتوالية، حتى أصبح المواطن همه الأول والأخير تأمين لقمة عيشه في ظل ارتفاع الأسعار المتوالي خلال العام الواحد .. فالنظام الأردني يرتكب خطأ كبيراً إذا استمر في حملة التصعيد هذه ضد الإسلاميين, والمطلوب أن يهدئ الأوضاع ولا يصب الزيت على النار, لأن الوضع العام في الأردن لا يحتمل مثل هذه الأزمات. كان الأجدى بالنظام الأردني أن يشغل نفسه في ما من شأنه تخفيف العبء عن كاهل الموطن الأردني, ومعالجة قضاياه الاقتصادية الحساسة التي يعاني منها, كالحد من البطالة وتأمين فرص العمل للمتخرجين الذين لا يجدون مؤسسة في الدولة تستقبلهم, وتخفيض أسعار الوقود الذي بات يحرق جيوبهم. فهل سيعمل الأردن على إيقاف التصعيد ضد الإسلاميين, قبل أن تتفاقم الأمور إلى مالا يحمد عقباه, وإيقاف كرة الثلج من التدحرج, أم سيستجيب للإملاءات الخارجية التحريضية لفسخ العلاقة مع الشريك الإسلامي التي دامت لسنوات, وتكون هذه الحادثة بمثابة مفرق الطريق بينهما, ويضيف الأردن هماً آخر، وبهذا سيبقى الأردن يعيش كوابيس وتداعيات الزرقاوي حياً وميتا.