في الوقت الذي كان رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان يخطِف الأضواء في القمّة العربية الأخيرة بمدينة سرت الليبية ويستحوِذ على اهتمام الشارع العربي المتعطّش لأي خطاب فيه تحدٍّ وندّية لإسرائيل، كان المسؤولون والصحفيون العرب في أروِقة القمّة يتساءلون، أثناء تناولهم الطعام التركي، عن أسرار القوة التركية الجديدة في المنطقة، وهُم يروْن الشركات التركية (وراء الكواليس)، تتولّى شؤون التنظيم والإدارة لإقامة الضيوف العرب. "الأتراك خطفوا الأضواء حتى في القمة العربية في سرت"، بهذه الانطباعات عاد صحفيون أردنيون من القمة، لكن حضور القوة التركية الجديدة لم يقتصِر على القمة الدورية التي انعقدت في شرق ليبيا، فقد أخذت مساحتها تتّسع باطِّراد ملحوظ خلال السنوات الأخيرة، سياسياً واقتصادياً وثقافياً، وتحديداً مع وصول حزب العدالة والتنمية، ذي الجذور الإسلامية إلى الحكم في عام 2002، بعد فترة وجيزة من تأسيسه. لماذا عاد الأتراك؟ عودة الأتراك إلى المنطقة العربية محفوفة بالتساؤلات والجدالات الساخنة، ليس فقط على صعيد النخبة السياسية العربية، بل حتى لدى نُخب تركية، وتحديداً تلك اليسارية والقومية التي لا ترحّب بأي صِلة جديدة مع المنطقة العربية ولا تشعر بالارتياح للخطاب التركي الجديد الدافئ تُجاه العرب والسَّلبي تُجاه إسرائيل، التي حظِيت خلال عقود سابقة بعلاقات حميمية وصداقة عميقة مع النّخبة العسكرية والسياسية التركية العِلمانية، قبل أن يقود أردوغان توجّهاً جديداً للسياسة التركية مُناقضاً كُلِيا لتلك المرحلة. ثمّة من يحيل الدّور التركي الجديد النَّشط في المنطقة إلى الصعوبات الجمّة التي تواجهها تركيا في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، وهي الأولوية التي وضعها حزب العدالة والتنمية لنفسه لحْظة وصوله إلى السلطة، إلاّ أنّ هذا الانسِداد الغربي، دفع بقادة العدالة والتنمية إلى محاولة تعويضه في مجال آخر، إستراتيجي وحيوي، ما نقل السياسة التركية إلى دوْر أكبر واهتمام أكثرَ بمنطقة الشرق الأوسط. "الانسداد الأوروبي" تزامن مع حالة مُعاكسة في منطقة الشرق الأوسط، تتمثل بفراغ إستراتيجي ناجِم عن عجز الدول العربية في مواجهة التحديات الأمنية، وفشل الولاياتالمتحدةالأمريكية بفرض مشروعها الجديد في المنطقة بعد احتلال العراق، في سياق حالة من الاستِقطاب بين القوة الإقليمية الإيرانية (وحُلفائها من السوريين والحركات الإسلامية، كحزب الله وحماس والجهاد) من جهة، وما يسمّى بدول الاعتدال العربي والولاياتالمتحدةالأمريكية من جهة أخرى، مع محاولات إسرائيلية لتوظيف خصوم إيران لمصالحها من جهة ثالثة. خطوط التّداخل التركي مع المنطقة بدأت في محاولة "ملء الفراغ" في منطقة المنتصف، بالوساطة بين السوريين والإسرائيليين في عملية التسوية، والمساهمة في تهدئة الملف العراقي من خلال استقطاب الحوار بين الفرقاء والأطراف المختلفة، والمساهمات الإنسانية. مع العدوان الإسرائيلي على غزة بداية العام الماضي، قفز الدور التركي إلى مرحلة جديدة انعكَست مع خطابات رجب طيب أردوغان، الذي صعّد لهجته الناقدة الحادّة لإسرائيل واتهامها بارتكاب جرائم حرب، ممّا رفع من شعبيته في الشارع العربي، الذي كان يتوق إلى شخصية سياسية قوية تقدّم خطاباً مختلفاً عن الخطاب الرسمي العربي الرّاهن تُجاه إسرائيل، الذي لا يُرْضي الشارع العربي. المواقف التركية الجديدة اتّسمت بتأزّم العلاقات مع إسرائيل، ما جعل من أردوغان شخصية غير شعبية في الشارع الإسرائيلي، ومتعاطفة مع الفلسطينيين، وقوة إقليمية تحمل تصوّرات إستراتيجية مُغايرة للسياسات الغربية، على الرّغم من تحالفها التاريخي العميق مع الغرب (التحقت بحلف شمال الأطلسي منذ عام 1947)، وبخاصة تُجاه إيران وسوريا، إذ أعلن أردوغان أنه من حقّ إيران امتلاك برنامج نووي سِلمي ورفض ضرب إيران، كما انفتح على السوريين بصورة كبيرة، موقِّعاً العديد من الإتفاقيات الاقتصادية التي تَشي بازدهار العلاقة، على النقيض مع العقود السابقة. سرّ الأتراك.. "القوّة الناعمة" الترحيب الشعبي بعوْدة الأتراك يتجاوَز التوقّعات بدور عسكري مُباشرة في المنطقة لصالح الفلسطينيين والعرب، ولا يوجد مَن يُطالب بذلك. سرّ القوة التركية الجديدة يتمثّل بالجاذبية الناعمة للشخصية الكاريزمية لرجب طيب أردوغان، التي تستهوي قطاعات واسعة من النُّخب والشارع في العالم العربي. أردوغان هو ابن الطبقة الفقيرة التركية، يحِب كرة القدم، استطاع تحقيق إنجازات سياسية مُتتالية منذ كان رئيساً لبلدية اسطنبول، وصولاً إلى إحداثه اختراقاً تاريخياً في طبيعة الحركة الإسلامية التركية، وكسره لشوكة العسكر وسطوتهم، ومن ثم خطابه الحادّ تجاه إسرائيل وما قامت به من جرائم خلال عدوانها على غزة في ديسمبر 2008 - يناير 2009. حضور أردوغان وخطابه الجديد يتجاوز السِّحر الشخصي إلى شرط تاريخي يُتيح للأتراك التَّموْضُع في مكان إستراتيجي في المنطقة لتمثيل القوة السُنيّة الإقليمية في مُواجهة إسرائيل (التي تمثّل في الوعْي العربي قوة احتلال غاشمة) وموازية لإيران، التي لا زال يُنظر لها من طرف قطاع واسع عربي، نخبوياً وشعبياً، باعتبارها قوة شيعية، لها فضاؤها الطائفي في العراق ولبنان والخليج ومصالحها القومية التي قد تتعارض مع المصالح العربية السُنية، كما هو الحال في العراق. إذن، جاء الأتراك والشارع العربي يتوق إلى قوة سُنية إستراتيجية تملأ الفراغ وتشكّل حليفاً - صديقاً موثوقاً، وقد استطاع أردوغان خلال فترة وجيزة، من خلال التقاطه لهذه اللّحظة أن يخلق شعبية واسعة ودوراً متزايداً في المنطقة. حضور أردوغان والجاذبية التركية توفِّر أرضية جيّدة للمصادر الأخرى للقوة الناعمة التركية في المنطقة العربية، إذ باتت تنتشِر المطاعم والملابس التركية وتستهوي قطاعات واسعة من الشارع العربي، فيما بدأت شركات تركية كُبرى تنافس الشركات العالمية في مشاريع عِملاقة في العالم العربي، كما هو الحال في الأردن، إذ تتولّى شركة تركية أحد أكبر المشاريع الإستراتيجية (جرّ مياه حوض الديسي إلى العاصمة عمان). الدراما التركية تُمثل هي الأخرى مصدراً ثقافياً للجاذبية التركية، إذ تحظى المسلسلات التركية المُدبلجة، بحضور كبير في المجتمعات العربية، ويحيل البعض ذلك إلى أنّها تجمع بين الجانب الرومانسي والبورجوازي مع المظاهر الإسلامية (الصلاة وغطاء الرأس في بعض الأحيان)، ما يجعلها قريبة إلى المُشاهد العربي، ويدفع به الفضول إلى التعرف مرة أخرى على التّجربة التركية بعد عقود من القطيعة والانقطاع الإرادي بيْن الجانبين! يلخّص د. إبراهيم سيف، الخبير الاقتصادي الأردني ملامح المعادلة الاقتصادية - السياسية الجديدة للأتراك في المنطقة العربية، إذ يرى أنّ سِر تفوّق الاقتصاد التركي يعود لأسباب رئيسية. فبداية، استطاع الأتراك منذ منتصَف الثمانينات من القرن الماضي، إعادة هيكلة المعادلة الاقتصادية الداخلية بصورة جيِّدة بين القطاعيْن، العام والخاص، ما سمح للقطاع الخاص التركي بالنمُو والصعود وامتلاك قُدرات تنافُسية عالية جداً. خارجياً، يرى سيف في تصريح خاص ل swissinfo.ch، أنّ محاولة الأتراك الدخول إلى الاتحاد الأوروبي أفادت الاقتصاد التركي كثيراً، إذ أنّ شروط ومعايير الانضِمام كانت تقتضي الحدّ من الفساد ورفع الشفافية والقدرة التنافسية ومعايير نوعية عالية للسِّلع والخدمات التركية، ممّا رفع من درجة الاستعداد وطور الاقتصاد التركي. وعندما أغلق الاتحاد الأوروبي الأبواب في وجه الأتراك، وجدوا وراءهم سوقاً استهلاكية عربية أكثر جاذبية، تمتاز بقُدرة شرائية كبيرة وتستوعب مساحة واسعة من الخدمات والسِّلع الجديدة، فحدثت الإستدارة التركية تُجاه المنطقة العربية وحقق الأتراك اختراقاً واسعاً. ويضيف سيف أنّ رجب طيب أردوغان كيّف خطاباته بصورة ذكِية تسمح بقوّة دفع كبيرة للاقتصاد التركي في المنطقة العربية، وعزّز من فُرص القبول الثقافي والاجتماعي للسِّلع والخدمات التركية الجديدة، وسهّل اختراق السوق العربية. وسِرّ التفوق الاقتصادي التركي، كما يرى سيف، بالإضافة إلى الجوْدة والمعايير التنافسية، هو الكلفة الأقل لليَد العاملة التركية والقُرب الجغرافي (مقارنة بالسِّلع الغربية) والجمع بين السِّلع والخدمات، وقد ساهمت العوامل الدِّينية والثقافية والاجتماعية في توفير بيئة اقتصادية حاضنة للأتراك في المنطقة. أيْن يقع الدور التركي الجديد؟ لم ترتسِم بعدُ ملامح الدّور التركي الجديد وطبيعة الموقع الذي سيحتلّه في السياسات الشرق الأوسطية ومستوى نفوذه وحضوره، وذلك بقدر ما يرتبط برؤية العدالة والتنمية التركي. فإنه أيضاً يشتبِك مباشرةً بالمتغيِّرات الإقليمية، بخاصة المتعلِّقة بالملف النووي الإيراني والوضع في العراق والصراع العربي - الإسرائيلي. بلا شك، فإنّ الدور التركي الجديد لن يخضَع لِما تحمله الذاكرة الانتقائية المُتبادلة بين العرب والأتراك، إنّما المصالح الإستراتيجية التركية والعربية هي التي ستحكُم حدود هذا الدّور وطبيعته. فالأتراك لن يستعيدوا الصِّراع العثماني - الصفوي مع إيران ولن يقودوا الجيوش لتحرير القدس من أيْدي الإسرائيليين ولن يحاولوا الهيْمنة على العالم العربي، هذا ما يُدركه الأتراك جيّداً، والمطلوب من النُّخب السياسية والمثقَّفة العربية، التي تغرق في خطابات عاطفية مؤيِّدة أو معارضة للأتراك من وحْي الذاكرة الإنتقائية، ولا تحاول الخروج من ذلك إلى بناء نَسَق عقلاني - واقعي في رسْم صيغة العلاقة المطلوبة مع القوة التركية الجديدة، وتعريف المصالح المُتبادلة بين الطرفيْن. "القراءة الخاطِئة" للدّور التركي، ما تزال سائدة في الخطاب العربي، شعبياً (متحمِّسا) وحكومياً (مشكِّكا ومتمنعا)، ما يخلق حالة من الالتِباس وعدم القُدرة على تحديد صيغة الشراكة والتحالف الجديد في مواجهة التحديات والتهديدات التي تُحيط بالمنطقة العربية. الأتراك قادمون هذه المرة كقوة مُعاصرة، لاعب إقليمي واقعي له مصالحه الإستراتيجية والأمنية والاقتصادية، ويحاول تحقيقها في المنطقة، وهي المصالح التي تبدو الأقرب والأكثر توافُقاً مع المصالح العربية، ما يدعو إلى توظيف العوامل الثقافية والدِّينية باعتبارها محفّزات لتحقيق تحالف إستراتيجي إقليمي مع الأتراك، بعيداً عن العودة إلى الذاكرة والنّبش فيها بما لا يُفيد إيجاباً أو سلباً كِلا الطرفيْن. المصدر: سويس انفو