المخاض قادم لا محالة ، ولن تعود عقارب الساعة إلى الوراء ، والحراك السياسي والثقافي الذي يشهده الشارع المصري ، لن تنهيه مجموعة " مسكنات" أو تخمده"مهدئات" من قبل النظام ، ولن تلهيه – أيضا- محاولات تغيير الانتباه أو تحويل قطاع من الرأي العام تجاه قضايا هامشية في الداخل ، أو افتعال أزمات مع الخارج. فمصر الحبلى الآن ،لابد لها من ولادة طبيعية تخرج من رحم قوى المجتمع المدني والطيف السياسي بأنواعه المختلفة التي لم يلوثها النظام بل ناصبها العداء وحاول الفتك بها ، بكل الطرق والتنكيل بمؤسساتها وشخصياتها ، أو ولادة قيصرية مفاجئة ، تأتي على غرة من بحيث لا يحتسب الجميع لا النظام ولا قوى معارضة ومؤسسات المجتمع المدني ، وقد تعيد عقارب الساعة للوراء وتعيدنا إلى نقطة الصفر. إننا الآن أمام مفترق طرق صعب ، ولا بد من حل لهذه المعضلة التي وضع النظام فيها نفسه، بل وورط مصر كلها في أوحاله ، فلا هو تقدم وتفهم حتمية التغييرات التي يشهدها العالم ، وأطاحت بأيديولوجيات ونظم بل دول كانت عظمى ، ولا هو حمل عصاه ورحل وترك للشعب وقواه الحية السير بطريقة طبيعية في اتجاه التغيير نحو الأفضل ، لكن للأسف استخدم النظام كافة أوراقه ، سواء في "الداخل" لاستمالة البعض وإرهاب البعض الآخر ، أو ل "الخارج" في رسائله التخويفية من بدائل غير مضمونه لمصالحه ، بهدف إطالة عمره واستمراريته في السلطة والتسلط. مازال النظام مستمرا في استنفاد طاقته حتى الوقت الضائع او الوقت التالف ، وكأنه في مبارة كرة قدم انتهى وقتها الأصلي ولم تبق سوى دقائق معدودات ليطلق الحكم صافرة النهاية ، ومن المؤكد أن الحكم هذه المرة ليس النظام ولا رأسه ولا من يدورون في فلكه ويزينون له أعماله، بل ستكون الصافرة من القوى المجتمعية الحية التي شبت عن الطوق ، وخرجت لتعلن عن نفسها، وتتحمل تبعات التغيير ، وتتحدى حتى "راس النظام" الذي كانت حتى وقت قريب من "المحرمات"، وتواجه أجهزته القمعية وأدواته التي يستخدمها في القهر والقمع والاستبداد. وخطورة التغيير القادم ، أن النظام افقد جميع مؤسسات الدولة دورها ، بل عمد إلى تهميشها أو تهشيمها ، بربطها به وبعجلته ، وجعلها تعمل وفق رؤاه الشخصية ،لا وفق المنظومة القانونية والمسؤوليات الدستورية الملقاة على عاتقها وصلاحياتها ، والتي تجعل منها ركائز لاستقرار وامن البلاد ، وتجعل أي عملية تغيير تسير وفق هذه المنظومة الطبيعية ، وفي إطار مؤسسات الدولة ، حتى لا نفاجىء بالانهيار الكامل ، كما حدث في أنظمة أخرى ، عندما هوى راس النظام فهوت معه جميع مؤسسات الدولة ، كما حدث لنظام سياد بري في الصومال ، وما حدث للرئيس العراقي السابق صدام حسين ليس عنا ببعيد ، فعندما اختفى صدام من القصر الجمهوري ، اختفى الجندي العراقي الذي ينظم حركة المرور في شوارع بغداد معه ، لان راس النظام ربط كل شيء به هو شخصيا لا بالدولة ومؤسساتها ، ولذلك لم نجد أثرا في العراق لحارس امن او لمجلس تشريعي ولاحتى لمؤسسة خدمية أو هيئة قضائية. فالنظم المستبدة لا تفرق بين "رأس النظام"الذي هو كل شيء ولا مؤسسات الدولة التي ترتبط بأجهزتها وشخوصها به ، والتي أطلق عليها المستشار طارق البشري "شخصنة الدولة" ، وهو ما حدث فعلا في مصر التي اختزلت تماما في شخصية الرئيس وتوجيهاته وتصرفاته وقراراته، وصلاحياته اللامحدودة. فمنذ نصف قرن اختزلت الدولة وهيئاتها ومؤسساتها بل وحتى سيادتها في شخصية الرئيس ، والأمر مستمر حتى الآن فالرئيس ، الذي هو الذي يأمر وينهى ، ويوجه ويخطط ، ويعين ويقيل، والذي يرينا ما لانرى ، بصفته الرئيس الأعلى لجميع المؤسسات التشريعية والقضائية والذي يمسك بكل خيوط السلطة التنفيذية. ولكن الذي كان مستساغا أو مقبولا ، تحت ظروف القهر والتسلط ، التي مارستها أجهزة البطش في العهدين الأول والثاني بعد حركة يوليو1952– إذا استثنينا شهور حكم الرئيس نجيب- لا يمكن قبوله في ظل النظام الحالي ، الذي يعد الأطول عمر ، والأكثر ضبابية ، والذي يفتقد غلى الشخصية التاريخية أو حتى الرؤية السياسية الواضحة ، يعتمد على الأسلوب العسكري في المباغتة والمفاجأة ، في زمن الفضائيات والبث المباشر ، وسيلان المعلومات والقرية الكونية الصغيرة . لقد اجبر النظام تحت الضغوط – داخلية وخارجية وان كانت الثانية أكثر قوة وأعظم تأثيرا – على إجراء تعديل دستوري قسري ، جاء من خلال بولادة غير طبيعية ، فجاء مشوها مفصلا تفصيلا دقيقا يلائم عقلية النظام ويصب في اتجاه عجلة التوريث ، وقد مارس جهابذة النظام كافة الحيل في تعديل المادة 67 اليتيمة من الدستور ، لتخرج لنا في اغرب صياغة دستورية عرفتها النظم السياسية ، واجبر النظام – أيضا- على الدخول في انتخابات رئاسية شكلية ، كانت محسومة سلفا ، ولكن من الواضح أن من تجرا واخذ العملية ببعض الجدية ، ودخل في اللعبة ، وتوهم انه سينافس في الرئاسة ويقترب من حلبتها ، دفع ثمن جرأته لمجرد أن صدق أو توهم انه لاعب في هذه الانتخابات ، ولعل ما حدث للدكتور ايمن نور رئيس حزب الغد المثال ففقد الرجل حزبه وحريته وشوه ونكل به حتى زوجته يتحرشون بها عند زيارته ولا ندري أو هي تدري ماهم فاعلون بها غدا، وأيضا النهاية المأساوية للدكتور نعمان جمعة الرجل القانوني والأكاديمي قبل أن يكون رئيسا لحزب الوفد ، والذي طلبت له ابنته أن يخرجوه فقط من السجن ويغادر البلاد إلى غير رجعه. ومن ثم فان الحراك الذي يشهده الشارع المصري الآن ، من تظاهرات واحتجاجات واعتصامات ، من ألوان الطيف السياسي، وحرص النظام على توسيع رقعة العداء للفئات والقوى المحركة ، وضع النظام كله ومخططاته التوريثية في مأزق خطير ، وجعله أمام أمرين لا ثالث لهما : إما أن يستمر في التصعيد ، وما يستلزم ذلك من الإفراط في استخدام عصاه الغليظة، التي لم تفرق بين قاضي محصن بحصانة قضائية أو عضو مجلس شعب لم تحمه حصانة تشريعية من الضرب والتنكيل وتفتيش حقائبه ، أو من متظاهرين يخرجون في الميادين والشوارع من خيرة من أبناء هذا البلد ، معتمدا على ضوء اخضر حصل عليه من الخارج بان يستمر في غيه ، وهو الأمر الذي يضعه في نقطة اللاعودة ، ويعجل بولادة قيصرية مفاجئة وغير مدروسة من قبل مغامرين يخرجون من رحم هذا النظام . الأمر الثاني : أن يستجيب النظام للمنطق ولصوت العقل ، ويدرك القائمون عليه خطورة الموقف والتحديات التي صارت اكبر من الدولة وقزمت النظام ، ويوقن ان المواجهة لن تجد وان سياسة العصا الغليظة لن تؤدي إلى الأمن يوما بل ستؤدي – حتما – للا امن للنظام ، ومن ثم يبدأ في تصحيح المسار ، بعملية تغيير وإصلاح حقيقي يشارك فيها الجميع لإنقاذ البلاد والعباد ، وإلغاء كافة القوانين المشبوهة والا ستثنائية. ولكن من الواضح أن النظام حسم أمره ، ووجد في الخيار الأول التصعيدي الملاذ له ، فصم أذنيه عن مطالب الإصلاح ، وألقى بكافة بقايا أوراقه المحروقة في اتجاه التصعيد ، فمد العمل بقانون الطوارىء، ونابذ قوى المجتمع المدني العداء ، ورفض أي حوار مع أي قوى مجتمعية شعبية حية ، الأمر الذي سيغرقه حتما في أزمات تتصاعد يوما بعد يوم ، ويجعله يعيش على فوهة بركان لا يعرف احد متى سينفجر ؟ [email protected]