التاريخ لا يعرف الانقطاعات، والأيام تتلو الأيام والشهور والسنين فى تواتر منتظم، فتخلق أحداثاً تعيش ثم تموت ثم يعاد بعثها من جديد، وتبدل قيماً وتخفى أو تظهر أخرى، لتدفع بدوران عجلة التاريخ تدريجياً إلى منحنيات ومنعرجات تصبغ كل مرحلة بطابعها الخاص، وتدفع بتلك الأمة للأمام وتأخذ بغيرها للخلف، وتضع هذه الحكومة فى النور وتترك غيرها للظلمة، وتعيد بناء الأنظمة وفق مقتضيات كل مرحلة تاريخية غير منفصلة عما قبلها أو ما بعدها، فكل مرحلة تسلم إلى أخرى وكل حدث هو نتيجة لسابقه ومقدمة لتاليه، وهو ما يعنى أن التغيير لن يأتى أبداً بين عشية وضحاها، لكونه الإفراز الطبيعى لمجموعة من العوامل المتراكمة شيئًا فشيئاً، صانعة للأحداث ومعيدة لتشكيلها. والحراك السياسى الحاصل فى مصر الآن والمدعوم بعدد غير قليل من القوى السياسية والحركات الشعبية والرموز الوطنية لم يولد من عدم، ولم يأت فجأة، بل هو إفراز مجموعة عوامل صنع بعضها الحزب الوطنى بقصد أو بغير قصد، وأسهمت فى بلورتها الحتمية التاريخية القاضية باستحالة الثبات مهما كانت قوته، فاشتداد القبضة الأمنية وتفعيل القوانين الاستثنائية واستفحال الأزمات وتوالى موجات الغلاء وسقوط أكثر من 40٪ من الشعب المصرى تحت خط الفقر وشيوع الاحتكار وانحصار التنمية وتغلغل الفساد فى بعض قيادات الحزب الوطنى والحكومة، كلها أمور يُعزى إليها الفضل فى تحريك المياه الراكدة وكراهية الناس لاستمرار معاناتهم، كلها أمور استثارت فيهم مشاعر السخط والغضب والحنق على النظام وحفزتهم على وجوب التحرك لإنقاذ سفينة الوطن من الغرق فى دوامة فوضى الحكم الشمولى، كما أن هناك شخصيات شريفة من داخل الحزب الوطنى نفسه أسهمت فى هذا الحراك السياسى، عندما تبرمت بالحزب، وسئمت من عجزه عن تحقيق الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمصريين، وقررت التنازل طواعية عن مقاعدها الحزبية ومصالحها، حرصاً على احترام أنفسها واحترام الناس لها، وخوفاً من تحمل وزر المشاركة فى التدمير المنظم لمصر، وأذكر من هؤلاء: الدكتور «أسامة الغزالى حرب»، الذى قدم استقالته من لجنة السياسات، نتيجة عجز الحزب عن تنفيذ أى إصلاحات حقيقية، وصرح حول أسباب استقالته لوكالة «الأسوشيتد برس» قائلاً: «عندما انضممت إلى لجنة السياسات كنت أعتقد أنها تنوى إجراء عمليات إصلاح ديمقراطى حقيقى، لكن اتضح لى أن الأمور تسير فى اتجاه آخر تماماً، والنتيجة أن مصر تعانى الآن فجوة سياسية مرعبة، سببها فشل الحزب الحاكم فى تحقيق الإصلاح والتغيير وتقديم سياسات بديلة للوضع القائم». ولنفس الأسباب تقريباً قدم النائب السابق «محمد علام»- أمين مساعد الحزب الوطنى فى سوهاج- استقالته، احتجاجاً على الصراعات الداخلية فى الحزب، وتصفية جميع عناصره الملتزمة، واعتراضاً على سياسات السيد «أحمد عز»، الذى وصفه بأنه يدير الحزب كما لو كان يدير شركة للحديد والصلب، ووصف الفكر الجديد للحزب بأنه مجرد تغيير لأشخاص وليس سياسات، ومن بعدهما توالت الاستقالات الجماعية فى كثير من القواعد الحزبية بالمحافظات، ولا شك فى أن هذه المواقف هى فى حقيقتها إثراء للحراك السياسى، وتحفيز لبعض الشرفاء من داخل الحزب الوطنى على الانضمام إلى قاطرة الإصلاح والتغيير، التى يمكن اعتبار بداية انطلاقها عام 2000، بقيام حركة واسعة فى الشارع المصرى بمساندة الانتفاضة الفلسطينية الثانية ثم مناهضة الحرب على العراق ثم مواجهة التمديد والتوريث ثم انتخابات برلمانية ساخنة عام 2005، ثم ظهور حركات معارضة مثل: «حركة كفاية وحركة مصريون ضد التوريث وحركة التغيير والإصلاح الدستورى وحركة 9 مارس وحركة شباب 6 أبريل» ثم اندلاع انتفاضة القضاة للمطالبة بنزاهة الانتخابات واستقلال القضاء ثم إضرابات واعتصامات ومظاهرات وانفجار غير مسبوق للحركة العمالية ثم طرح أسماء لدخول معركة الانتخابات الرئاسية عام 2011 مثل: «الدكتور محمد البرادعى والسيد عمرو موسى والدكتور أحمد زويل واللواء عمر سليمان»، وختامها كانت الجمعية الوطنية للتغيير التى انضم إليها نخبة من خيرة المثقفين والتنويريين، على رأسهم الدكتور محمد البرادعى الذى يلتف حوله الناس الآن، تماماً مثلما سبق أن التفوا حول القضاة. وهكذا، صنع التسلسل التدريجى للأحداث خطاً درامياً للتغيير، بدأ على استحياء، ثم امتد، بفعل أحداث وشخصيات وتناقضات فى الرؤى، ليبلغ المرحلة التى أظنها قد تكون قريبة جداً من نهايته، ومقدمة لفصل جديد أتمنى أن تكون الحرية والديمقراطية والانتخابات الحرة هى أبرز عناوينه لكن موعد نزول الستار على المرحلة الآخذة فى التلاشى مرتبط بالتكاتف حول المطالب الوطنية التى لا أظن أن هناك اختلافاً عليها، وبإدراك جميع الأطياف والطوائف من المعنيين بالتغيير أنه صناعة مجتمعية، للجميع أدوار فيها، فالنخبة لن تصنع شيئاً إذا أصر الشعب- أول المعنيين بالتغيير- على دور المتفرج خارج ملعب السياسة، والشعب سيظل على هامش الحياة فعلاً إذا بقيت النخبة منعزلة عنه، ولا تعرف كيف تتواصل معه، وتتحدث إليه بلغة يفهمها. إن عقارب الساعة لا تعود أبداً إلى الوراء والحكم الشمولى مهما طال أمده سيزول حتماً، تماماً مثلما زالت نظم ديمقراطية سابقة، فدوام الحال من المحال، والتغيير قادم قادم رغم أنف من لا يفهمون دروس التاريخ، لكن طول معركة التغيير أو قصرها مرهون دائماً بمدى تكاتف القوى الباحثة عنه والراغبة فى تحقيقه، وما دامت المطالب الوطنية غير مختلف عليها الآن، فلابد أن تكون معركتنا الحالية ليست ضد شخص أو تيار أو حزب أو حركة سياسية فقط، بل هى معركة إصلاح فى مواجهة فساد، معركة إنقاذ للحاضر ضد عقليات تحكمه بفكر الماضى، معركة حياة يجب أن نعيشها ضد موت يفرض علينا، معركة مصير وليست معركة مصالح، باختصار إنها المعركة الأم معركة المصريين ضد الاستبداد، فهل سننجح فى خوضها؟