بدأت أخبار امتحانات الثانوية العامة في مصر ، تشغل البيوت والأسر والصحافة والرأي العام ، لكل منهم همومه بشأنها .. الأسر تراها أخطر منعطف في حياة أبنائها سيتحدد بمقتضاه مستقبلهم المهني والاجتماعي ، والصحافة والإعلام تراها فرصة "مهنية" لزيادة مبيعاتها ، أما أنا فإني أراها اختبارا حقيقيا على أصالة وصلابة الشعب المصري العربي المسلم ، وقدرته على افشال ما يخطط له في الظلام وفي الاجتماعات السرية ، وخلف الغرف المغلقة ، من سيناريوهات مدعومة بقوة السلطة وامكانياتها العاتية ، وب"الدولارات" والتمويل الغربي والأمريكي وبالضغوط الصهيونية ، لتغير جلده ودينه ولغته . ففي عشية الإعلان عن نتيجة الثانوية العامة العام الماضي والأعوام التي سبقته فوجئت بصور الأوائل التي تصدرت الصفحات الأولى بمعظم الصحف الحكومية ، إذ كانوا جميعهم فتيات مشرقات بالحجاب ، و شبانا تتألق وجوههم باللحى و ممن مدحهم الله تعالى بقوله " سيماهم في وجوههم من أثر السجود" ، حينئذ حمدت الله ، و قلت في نفسي : هذا دليل على فشل سياسة التربية و التعليم ، و التي كانت تتصرف و كأنها في "مهمة أمنية" و ليست تربوية عادة ما كنا نسمع عما يشبه أفلام "الأكشن" الهوليودية ، عن بطولات الوزارة و مغامراتها و صولاتها وجولاتها في دهاليز الإدارات التعليمية التي يحشر فيها الموظفون حشرا في طرقاتها و حتى دورات مياهها مع الديدان و الفئران و الصراصير ، و المباول التي لا تستر عورة ، و لا تحفظ لأحد حرمة ، و في ظلمات المدارس الريفية الآيلة للسقوط ، لمطاردة فلول "الإرهابيين" و "المتطرفين" من التلاميذ و المدرسين ، و إحالة المدرسين منهم إلى "كتبة" في إداراتها التي تتشح بالكآبة ، ليتجرعوا مرارة البحث عن "كرسي" ، و سط تلال الكتل اللحمية ، التي تتكون من عشرات الموظفين ، المحشورين داخل العلب الأسمنتية الضيقة التابعة لوزارتنا الرشيدة ، و هي طريقة عبقرية اخترعتها وزارة التربية و ليست وزارة الداخلية ، لعقاب كل من رأته متطرفا أو إرهابيا ، من وجهة نظرها طبعا . حتى باتت في المخيال الجمعي المصري ، أشهر مؤسسة متخصصة في مكافحة "الإرهاب" ، و هو إنجاز وتطور يضاف إلى سلسلة إنجازات الوزارة مثل تفشي الدروس الخصوصية ، والجهل و الأمية الثقافية ، وخراب بيوت أولياء الأمور ، و إصابتهم بالضغط و السكر و العجز الجنسي ، و إغلاق الكثير من المحال التجارية ، و تعثر العشرات من المشاريع ، بعد أن بلعت الدروس الخصوصية مدخرات المصريين . و لما كانت الوزارة مولعة بكل ما هو حديث وحداثي ومباحثي ، و تتباهى عادة بأنها باتت وزارة إلكترونية ، فهي لم تتخلف عن مواكبة أحدث ما أنتجته عواصم الحداثة مثل باريس و برلين وواشنطن ، تحذو حذوها ذراعا بذراع و شبرا بشبر فيما يتعلق بتوصيف "الإرهابي" أو "المتطرف" . فاللحية و النقاب "رجس" من عمل الإرهاب ، من مخلفات فكر و ثقافة القرون الوسطى ، الظلامية والرجعية المتخلفة ، ينبغي التطهر منهما بكل فنون القمع و الإكراه الإداري . بينما الحجاب ، هو على العقل لا على الرأس ، يصيب التلميذة بالصلع ، و ربما يعود إليه سبب إصابة الفتيات بالتخلف العقلي ، و ليست مناهج الوزارة كما يردد عادة حزب أعداء النجاح . ولفرط رقة الوزارة و حنوها و خوفها على الطالبات ، و في تقليد "ديمقراطي" فريد من نوعه ، تبادر إلى استدعاء ولي الأمر على الطريقة البوليسية ، متى رغبت ابنته في ارتداء الحجاب ، ليوقع الإقرارات ، و يقسم ب"أيمانات المسلمين" ، أن هذه هي رغبتها هي، و ليست رغبته هو ، و كأنها رياضة حكومية لتوطين الطفل المصري على قبول رقابة الجهات الرسمية على رغباته ، حتى لو كانت من قبيل "الحرية الشخصية" ! المفارقة التي حملتني على أن أكون شاكا في قدرتي على فهم ما استقر عليه العالم المتحضر من مفاهيم ديمقراطية ، أن وزارة التربية و التعليم المصرية ،ما انفكت تقدم نفسها على أنها باتت واحة لنشر ثقافة الديمقراطية ، و رائدة في ممارسة حرية الفكر و الرأي ، و أن الجيل الحالي من الطلاب والمدرسين يرفل في نعيم و جنات ديمقراطية ، تقتضي أن نبتهل للعزيز القدير ، و ندعوه آناء الليل و أطراف النهار ، متوسلين إليه أن يزدها نعمة و يحفظها من الزوال . [email protected]