في أقصوصة من مجموعته (الولد الشقي في السجن)، كتب الساخر محمود السعدني عن سيد الحليوة، التي أختصرها لحضرتك قارئي الكريم، لتتفاعل معها كما فعلت أنا، أو أفضل مما تفاعلت: حين دخلت السجن قابلت شابًّا أنيقًا، جميل المحيا، لم يبلغ العشرين، ملامحه ليست كملامح الفلاحين، بل كان أزرق العينين، أشقر الشعر، يرسله على موضة ذلك الزمان، وعجبت أنه موجود في السجن في هذه السن، وبهذه الحالة، وظننت أنه أتى في مشاجرة مدرسية، أو نحو ذلك، حتى صدمت بأنه قاتل لشقي مشهور بإجرامه! كان أبوه إنسانًا طيبًا، ليس بينه وبين أحد عداوة، وذات ليلة مشئومة، خرج ليسهر مع شلته كالمعتاد، ويبقى حتى ينتصف الليل ثم يعود، قاطعًا طريقه بين الحقول إلى سقارة حيث يقيم، فامتدت يد غادرة، وانفرجت أعواد الذرة عن ماسورة بندقية، لتنطلق رصاصة تخترق قلب الرجل المسالم، فتكومه ميتًا لم يفُه بكلمة، ولم يعرف أحد سببًا لموته الغامض! ثم لم يكد يمر أسبوع حتى تهامس الفلاحون أن سبب مصرعه زوجته الجميلة، ذات العود الملفوف، والعينين الوسيعتين، والشعر المنسدل، والضحكة ذات الرنين الذي يدغدغ الأعصاب! كان عليوة قد راودها، فلم يعجبه أنها تأبت، وتمنعت، ورفضت، فخطر له أن يزيح زوجها ليخلو له الجو، ويفوز بها عنوة أو استسلامًا! وكان سيد آنذاك طفلاً صغيرًا بريئًا، فتغير حاله، وركبه شرود، واعتزل أصحابه ولداته! كان وسيمًا كأبيه، حمل الهم مبكرًا، فبدت عليه علائم الرجولة، وهمة الرجال، ولم يلحظ من حوله أن قلبه كان مليئًا بالغل، والرغبة في الثأر لأبيه من قاتله! وذات صباح، وصهد الشمس يشوي كل شيء؛ حتى الشجر والحجر، مر عليوة المفتون بقوته وسطوته، وألقى التحية على سيد الذي كان على ناحية من الطريق، فرد عليه السلام بست رصاصات أردته قتيلاً، فسقط يتخبط في دمه! ولم يتزحزح سيد من مكانه! ولم يهرب، بل وقف فوق الجثة: مسدسه في يده، وحذاؤه في دم عليوة! وأمام الشرطة اعترف بتفاصيل القتل؛ لم يتردد، ولم يتلعثم، ولم يهب! وأخذ يشرح كيف إنه لم يبارح خياله منظر عليوة حين جاء للعزاء في أبيه، وكيف حاول مغازلة أمه، بل احتضنها بالفعل، وهو واقف يشهد وقاحة القاتل، ويرتجف بدنه! لقي سيد تعاطف الناس، لثأره لروح أبيه وعرض أمه، وصار حديث المجالس؛ حتى تعاطفت معه الشرطة، وحكم القضاء بحبسه عامين، ليشهد السجن لأول مرة في حياته، ويستقر في زنزانة الإيراد! حيث المساجين الجدد الذين ما لبثوا أن بدءوا مشاجرة صاخبة، بمطاوى قرن الغزال التي طارت في الجو، ولمعت نصالها في الظلام، وسقط جرحى يعومون في الدماء، حتى صرخ سيد من الفزع طالبًا النجدة، فصاح فيه شاويش غليظ يلعن جدوده، ويأمره بأن يغلق فمه ويخرس! وجاءته النجده من خلال سجين قديم متمرس، طويل القامة، يزين فمه بأسنان ذهبية، استقبله ببشاشة وترحاب، وطمأنه ألا يحمل هم السجن، فهو فيه قديم، ومسموع الكلمة، ويستطيع أن يسهل له كل صعب، ويبعد عنه الأذى، ويحيل زنزانته إلى مكان حافل بالراحة والأمن! وأخذه إلى المعلم عبده الأبيض الذي أعطاه حلاوة طحينية وجبن وسجائر، فرجاه سيد أن يجد له حلاًّ يبتعد به عن زنزانة الإيراد! وعده عبده الأبيض خيرًا إذا هو (فتح مخه) وهي كلمة لم يفهمها سيد الحليوة الذي تركه عبده يعاني مرارة، بسبب الزنزانة العفنة، والمساجين المتوحشين، والسلوك القذر فيها بكل صوره.. بعدها جمع عم عبده أغراض سيد ونقله إلى زنزانته ليكتشف عالمًا آخر: زنزانة نظيفة واسعة، لُصقت على جدرانها صور لممثلات شبه عاريات، ووجوه فواحة الأنوثة، ومرتبة نظيفة، وقلة مياه، وموقدًا بأربع شعلات، ثم وجد المساجين والسجانين بلا فوارق، يعيشون معًا، ويأكلون معًا، بل إن المساجين ربما كانوا أعلى صوتًا وأكثر سيطرة! وتمر الشهور ولا يزور سيد الحليوة أحد، ولا يأبه من الخارج به أحد، حتى أمه انقطعت عنه أخبارها تمامًا؛ حتى ظن أنها ماتت، أو أصابها سوء، وهي التي كانت تحبه، ولأجلها قتل عليوة حين مد يده ليدنس جسدها النبيل! باح بخواطره لعم عبده، الذي قال: يا سيد: المسجون ريحته وحشة، محدش عاوز يشوفه! كان عبده (رد سجون) منذ مطلع شبابه! لم يكن لصًّا، ولا قاتلاً، ولا عنيفًا، ولا غشاشًا، لكنه تاجر لحم حرام، وبضاعته ذات طعم خاص، إنه قواد، له في عالم الليل باع طويل.. وحين رأى سيد الحليوة شهق شهقة إعجاب بأناقته وبياضه وشعره المرسل، وشبهه بالممثلين فنصب حوله شباكه: أقرض سيد مالاً كثيًرا، ودفع له ثمن البدلة والحذاء اللامع والأكل النظيف، ليمشي في السجن مدلاًّ بأناقته، وشبابه، وتسريحة شعره، ولم يطالبه شهرًا واثنين وخمسة وعشرة، حتى أغرقه في ديونه، ثم قال له ذات ليلة: انت عليك فلوس ولازم تدبرها يا سيد! فرد: وأدبر نفسي ازاي يا عم عبده! فتح مخك.. وانت تاكل ملبن.. افهم! وذات يوم جاء إلى زنزانته سجين آخر من الأثرياء، يرتدي بدلة قماشها أفخر من قماش بدلة مأمور السجن، ونظر إلى سيد، وقال؟ صح، اسمك مظبوط! حليوة فعلاً، وأعطاه سيجارة محشوة حتى (انسطل) وأعطاه ورقة بعشرة جنيهات، قائلاً: بحبح على نفسك! ولما تردد شجعه عبده الأبيض، وقال: خد من عمك خضير، دا سيد السجن كله، حتى المأمور بيسمع كلامه.. ابقى فوت على زنزانته شوية، عنده بدلة حلوة لك! لم ينس سيد الحلوة أثر سيجارة الحشيش، فانطلق بعد قليل لزنزانة المعلم خضير في الدور الثاني، حيث ينزل تجار المخدرات والأثرياء، وأحس سيد أن العيون كلها تنظر إليه، واستقبله الشاويش المرعب سيف بلطف عجيب وتقدمه نحو زنزانة خضير، وطرق بابها مخاطبًا من بداخلها: خدامك سيف يا معلم.. سي سيد الحليوة وصل! ودخل سيد ليجد مكانًا فاخرًا مؤثثًا، مفروشًا بالسجاد، وعلى جداره صورة المعلم خضير، وتناثرت فيه التماثيل البرونزية والخزفية، وعلقت بدل السجن على شماعات، وفي وسطه مائدة عليها الطعام والفاكهة، وفي جانبها تمدد المعلم خضير (المسطول، والمنسجم) على السرير بثيابه الداخلية، وقد مد يده بسيجارة محشوة لسيد، واستدناه ليجلس بجواره على السرير، وفجأة طوقه بيده وخطف قبلة من وجهه، وقال بخبث.. قوم يا سيد اقلع هدومك، الدنيا حر، قيس البدلة الجديدة! جفل سيد مما حصل، وقام واقفًا واعتذر، فارتفعت كف خضير على وجهه ب(قلم) عنيف، وثان وثالث، فصرخ مذعورًا يستنجد، وزعق خضير: خذوا هذا الكلب من هنا! ولما خرج سيد من الزنزانة صفعته ضحكات المساجين وتعليقاتهم: صباحية مباركة / يا بخت صاحب النصيب! وأصبح السجن غير السجن، والحال غير الحال، وبدأ المساجين يعاملون سيد الحليوة بوحشية مستفزة، وخلع عبده الأبيض عنه البدلة، وطالبه بديونه، وأعاده إلى الأكل الخبيث، والروائح النتنة، وحين أراد أن يخرج للحوش ذات مرة (عكمه) الشاويش سيف من قفاه، وصفعه صفعة مدوية، ألقته متلويًّا من الوجع.. ولم يكن أمامه بد من السجن الانفرادي، يلملم فيه جراحاته، وكرامته، وهوانه على الناس! وخفف عنه شيئًا هروبه إلى ذكرياته، وأحلام اليقظة، حتى سمع ذات يوم صوتًا مألوفًا لديه، صوت عبد الرحيم بلدياته والسجين السابق معه، فأقبل يسأله بلهفة: · أمي ازيها يا عبد الرحيم؟ · أمك اتجوزت، وسابت البلد، وما حدش يعرف مطرحها! · واتجوزت مين؟ · الواد عنتر اللي كان ماشي مع عليوة الله يجحمه! لا يعرف أحد ماذا جرى لسيد طول الليل، ولكن جيرانه في الزنازين قالوا إنه كان يصرخ صراخ كلب داسته عربة نقل على الإسفلت، وفي الصباح نادى على شاويش التأديب، قائلاً: قول للمعلم خضير سيد عاوزك يا معلم، قولّه أنا خدامه، قولّه حافتح مخي، هافتحه ع الآخر! عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.