من النتائج المهمة التي تستخلصها أية قراءة تحليلية لرد الفعل العلماني إزاء أية أحداث ثقافية بتجلياتها السياسية ، يكون الإسلاميون طرفا فيها ، هو التوصل إلى قناعة بأن العلمانيين المصريين لا يمثلون "حركة" أو تيارا "سياسيا أساسيا" ، و إنما "مجموعات مصالح" ، ترصد صعود و هبوط القوى المحلية و الإقليمية و الدولية ، لا سيما المؤثرة على "صانع القرار" بالداخل المصري ، و تتبنى مواقف و رؤى تأتي في سياقها العام منسجمة ، مع المحصلة النهائية لموقف النظام السياسي المصري ، من تلك القوى بغض النظر عن صدقية أو شرعية تلك المواقف ، إذ أن "جماعات المصالح" تحتاج عادة إلى حماية القوى السياسية الكبيرة ، و ليس إلى "الصدام" معها : فحزب الأمة الذي أسسه أحمد لطفي السيد و تحول فيما بعد إلى حزب الأحرار الدستوريين كان محض "جمعية تضامنية" تمثل أبناء البيوتات الكبيرة ، و كبار الملاك و الاقطاعيين ، أي كان تعبيرا عن مصالح "الأقلية الغنية" ، و لذلك عززمن آواصر تحالفه مع السراي و الإنجليز لحمايته من حزب "الوفد" الذي كان يمثل آنذاك "الأغلبية" و العامة من الناس ، ومن ثم تجنب الصدام مع القصر من جهة أو تبني مواقف وطنية معارضة للإحتلال من جهة أخرى، بل بالغ في ابداء حماسه في تأييد وجهة النظر البريطانية الاستعمارية بشأن التعاون مع الجاليات المسيطرة المحتلة ، و دعا إلى تملك هذه الجاليات للأراضي المصرية ، فيكون لها الحق في التملك و السيطرة على البنوك و التجارة و غيرها . و لم يجد رئيس الحزب (لطفي السيد) أية غضاضة في المجاهرة بتمجيد ، اللورد كرومر ، الحاكم البريطاني ، الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن إذ قال عنه بمناسبة يوم خروجه من البلاد : " أمامنا الآن رجل من أعظم الرجال ، و يندر أن نجد في تاريخ عصرنا ندا له يضارعه في عظائم الأعمال : هو اللورد كرومر" و قال :" لو بقي اللورد كرومر عاما واحدا في منصبه لعيّد عيده الذهبي في خدمة دولته " . و قد نشر "السيد" هذا في الجريدة في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع فسب المصريين جميعا و قال لهم " إن الاحتلال البريطاني باق إلى الأبد"(25) هذه المدرسة ممارسة السياسة و الثقافة من منطلق نفعي ، يقذف بالأصول و الثوابت الايديولوجية في أقرب سلة مهملات ، متى تعارضت مع المصالح بات إرثا مشتركا لكافة "جماعات المصالح" العلمانية ، على اختلافها و تباينها ، لا يختلف في ذلك الليبرالي عن الماركسي أو اليساري أو الشيوعي ، توارثته الأجيال اللاحقة منهم في مصر ، و في هذا الإطار نشير إلى نموذجين أفرزتهما الأحداث خلال السنوات الأخيرة.. نتحدث عنهما السبت المقبل إن شاء الله تعالى [email protected]