على مدى خمسة أيام، عاش السودانيون تجرِبة انتخابية غير مسبوقة. فبعد مُرور رُبع قرن، لم تجرِ فيه أية انتخابات، وتطبيقا لاتفاق نيفاشا للسلام العائد لعام 2005، كان على السودانيين جميعا الإدلاء بأصواتهم لاختيار رئيسهم ووالي الولاية وأعضاء البرلمان وأعضاء المحليات، وفي الجنوب، يشمل الاختيار أيضا رئيس حكومة الجنوب ذي الحُكم الذاتي وأعضاء البرلمان الجنوبي. هذه القائمة الطويلة من الاختيارات، عكست تعقيدا مركَّبا لَم يسمح في بلد مثل السودان ترتفع فيه نِسبة الأمية أن تجري الانتخابات بسلاسة وحِرفية، كما هي مكتوبة في الوثائق والجداول الاسترشادية. وكان طبيعيا أن يحدُث ارتباك وتأخير وتعطّل في الكثير من دوائر الاقتراع، والذي بدا فى مُعظمه نتيجة طبيعية لقلّة الخِبرة وضُعف الإمكانيات، أكثر منه نتيجة تعمُّد أو قصْد سيِّئ من المُفوضية القومية للانتخابات، التي سعت وِفق الإمكانيات المُتاحة والصلاحيات القانونية المحدودة، أن تخطِّط وتُشرف وتُدير عملية انتخابية لا نظير لها في أي بلد في العالم، وفى ظِل بيئة سياسية مُتشنِّجة وعالية التوتّر، فضلا عن اتِّهامات من كل حدْب وصَوْب بانعِدام الكفاءة والانحياز للحزب الحاكم والتّزوير المنهجي وعدم القيام بما يجب أن تقوم به من توعِية للناخبين وإرشادهم لِما يتوجّب القيام به. ومع ذلك، فقد شارك 60% من جُملة الناخبين، وهي نسبة كبيرة قِياسا لدَعوات المُقاطعة والاتِّهام بالتّزوير والتّحذير من دمامات دم وعُنف غيْر مسبوق، والتي روّجتها الأحزاب المُنسحبة من السِّباق الانتخابي، فضلا عن الموقِف المُلتبس للحركة الشعبية لتحرير السودان بشأن المشاركة في الانتخابات بالشمال. تعقيد وتركيب ومُراقبون دوليون إلى جانب التّعقيد والتّركيب والتشنّج السياسي والحسابات السياسية الخاطِئة، كان هناك المراقبون الدوليون والعرب والأفارقة ومن دول إسلامية، الذين وصّل عددهم إلى 840 مُراقبا، جميعهم اعترفوا بالأخطاء اللّوجيستية، والتي اعترفت بها أيضا المفوضية القومية للانتخابات وعمِلت على علاجِها، إما بإعادة طبْع قوائِم الاقتراع المُعيبة التي طُبعت في لندن وجنوب إفريقيا، وذلك في الخرطوم تحت أعيُن مراقبين أمريكيين وأوروبيين، أو مِن خلال مَدّ فترة التّصويت من ثلاثة أيام إلى خمسة أيام، لإفساح مجال أكبر للمشاركة، ولكنهم أي المراقبين الدوليين نفَوا أن يكون هناك تعمُّد لمِثل هذه الأخطاء والارتِباكات، كما نفَوْا أن يكون هناك تزوير متعمّد. وكان بيان مراقبي منظمة المؤتمر الإسلامي حاسِما في هذا الصّدد، بتأكيده على أن المنظّمة جاءت لمُراقبة العملية الانتخابية وليس كشاهِد زُور، بل كشاهِد على انطلاق عودة الديمقراطية بعد أكثر من 20 عاما، ولتشهد انفتاح النِّظام السياسي السوداني، مضيفا أن "كل ما حدَث كان قانونِيا ولم نلاحِظ أي خُروقات قانونية". الموقِف نفسه أكّده الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر، الذي تُراقب منظّمته هذه الانتخابات، قائلا "لا يوجد تزوِير، لكن بعض مُشكلات لوجيستية تعمَل المُفوضية على عِلاجها". انعدام الصِّدقية لكن تقيِيم المُراقبين المحليِّين السودانيين، المعروف باسم "تحالُف منظّمات المجتمع المدني" انتهى إلى خلاصة أخرى، مُعتبرا أن مشكلات نقْص لوائِح الناخبين في بعض المراكِز وتأخّر وصول مسؤولي مراكز الاقتِراع والموادّ الانتِخابية واستخدام أحبار يسهل إزالتها، هي نتاج طبيعى لعدم الصِّدقية الذي لازمت المفوضية مُنذ تشكيلها، ناهيك عن عدم وجود أي مركز انتخابي يُطابق المعايير التي حدّدتها المُفوضية نفسها. أما أحزاب المعارضة، التي انسحبت من السِّباق الانتخابي، خِشية إضفاء شرعِية على حُكم الرئيس البشير الذي تأكّد فوزه وفوز حِزبه حتى قبل الانتخابات، فقد أسهبت في بيان فساد العملية برمّتها، بداية من ادِّعاءات التّزوير المُسبق ونهايةً بوصْف الانتخابات بأنها مَهزلَة ومَسخَرة، وبدلاَ من أن تكون عُرسا للسودان، تحوّلت إلى مأتَم، حسب قول الصّادق المهدي، زعيم حزب الأمّة، الذي انسحب قبل أيام قليلة من انتخابات الرئاسة وقاطَع حزبه العملية كلّها. هذان الموقِفان الحديان في وصف العملية الانتخابية، هما بدورهما نتاج حالة تأزّم شديد ومتعدِّد المُستويات، يعيشه السودان منذ فترة طويلة، وهو تأزُّم يطُول أيضا حال الأحزاب السودانية نفسها، التي انقسمت على نفسها وفقدت وُجودها في الشارع وتصوّرت أن الوضع السوداني هو نفسه الذي كان قبل عقديْن أو ثلاثة عقود، وبالتالي، توهَّمت أن دعوَتها للمُقاطعة سوف تهُزّ البلاد هزّا. الحزب الحاكم والبحث عن شرعية ولا يُمكن لمُراقب أن ينفي أو يستبعِد أن المؤتمر الوطني الحاكم، برئاسة البشير، يُعوِّل كثيرا على هذه الانتخابات لإعادة إنتاج شرعية ديمقراطية لحُكمه لفترة جديدة، تمنَح البشير شخصيا نوعاً من الحَصانة أمام الداخل والخارج معاً، وتوفِّر أساسا شعبِيا لأية إجراءات أو قوانين أو تطوّرات قد يلجَأ إليها الحزب في المرحلة المُقبلة. ناهِيك عن أن الإصرار بإجراء الانتخابات، يعني أمام الرُّعاة الدوليين والإقليميين لاتِّفاق السلام في الجنوب، قُدرة وإرادة الحِزب الحاكم على الوفاء باستحقاقات الإتِّفاقية، أيّاً كانت، لاسيما استِحقاق إجراء الاستفتاء على مصير الجنوب في العام المقبل ونتيجته المرجّحة بانفصال الجنوب، ويعني أيضا أن الحزب لا يخشى ابتعاد الغالبية عنه. وفي كل الأحوال، هناك مِصداقية سياسية سوف يجْنيها الحزب والرئيس، ولو بطريق غيْر مباشر. غير أن المِصداقية الدولية المُحتملة، ليست كل شيء، فالمطلوب أيضا، بِناء نوْع من الرِّضا العام على النتائج المُنتظرة للانتخابات، ويبدو العَرض الذي قدّمه حزب المؤتمر الوطني للأحزاب السودانية، سواء التي شاركت في الانتخابات أو التي قاطعتها، بأن تكون شريكا في حكومة ائتلافية، إن فاز الرئيس البشير، هي خُطوة استِباقية لضَمان قَبول النتائج المتوقّعة، ومِن ثَمَّ، استِخلاص شرعية محلية تبدو مطلوبة أكثر من أي شيء آخر. الردّ الغير محسوم كيف ستردّ المعارضة؟ الأمر ليس محسوما بعد، خاصة هذه الأحزاب التي بالغت في بيان فساد العملية الانتخابية، حتى تُبرّر مقاطعتها للانتخابات، مثل حزب الأمة القومي وحزب الأمة الإصلاح والتّجديد والحزب الشيوعي. أما الأحزاب التي شاركت جُزئيا، كالمؤتمر الشعبي بزعامة الشيخ حسن الترابي والاتحادي الديمقراطي، بزعامة محمد عثمان الميرغني، والمرجّح أن يكون له تمثيل، ولو رمزي في البرلمان الوطني، فالأقرب أن تقبل نوعا من المشاركة في الحكومة الجديدة، والأقرب أيضا أن يحصُل الترابي على رئاسة البرلمان ثمناً لرفضِه مُقاطعة الانتخابات، وبِما يعكس تنسيقا مُسبقا مع الحزب الوطني الحاكم بالانضِواء تحت مظلّة النظام من موقِع المشاركة فيه، وليس من موقِع المُعارضة. علاقة مُلتبسة.. ولكن حاكمة وتظلّ العلاقة مع الحركة الشعبية لتحرير السودان هي الحاكمة في كل الأحوال، على الأقل حتى إجراء الاستِفتاء لتقرير مصير الجنوب، غير أن أداء الحركة، وإن بدا مُلتبسا في شأن مقاطعة الانتخابات والتنسيق مع أحزاب المعارضة التي عُرِفت بتجمّع جوبا أو تحالف قِوى الإجماع الوطني، فقد خلّص كثيرون إلى أن حسابات الحركة ليست حِسابات قومية تخُص السودان ككُل، بل تتركّز على الاستعداد للإنفِصال السِّلمي الذي يبدو وشيكا جدا. فقبل أسابيع قليلة من موعِد الانتخابات المُعلَن، سعَت الحركة إلى استِقطاب تحالُف أحزاب المُعارضة من أجْل الضّغط على الشّريك الآخر، أي المؤتمر الوطني، ولفترة قصيرة قبل إجراء الانتخابات، بدا وكأن الحركة الشعبية تمسِك بخيُوط اللُّعبة، لاسيما وأن لها مرشّحا رِئاسِيا يُنافس الرئيس البشير على المنصِب الرّمز لوِحدة البلاد. غير أن ياسر عرمان أعلن انسحابه من السِّباق الرئاسي، دون تشاوُر مع الأحزاب المعارضة، ممّا أحرجها كثيرا، وإن كان قد نزع رِداء الوِحدة تماماً عن أداء الحركة. وزاد الإحراج للمُعارضة مع الْتِباس موقِف الحركة بشأن المشاركة في الانتخابات في الشمال، والذي بدا مُحيِّرا في ضوء إعلان قيادات في الحركة قطاع الشمال الانسحاب من باقي مُستويات الانتخابات في الشمال والاستِمرار فقط في الجنوب، ثم جاء نفي سلفاكير هذا الانسحاب تماما قبل يوميْن من بدْء الاقتراع. لكن مؤشِّرات المشاركة في العملية الانتخابية للجنوبيِّين المُقيمين في الشمال، أثبَتت أن هناك قرارا اتَّخذته الحركة بعدَم المُشاركة في انتخابات الشمال، وأن تنسيقها المُسبَق مع أحزاب المعارضة الشمالية، لم يكُن سوى ذرّ للرّماد في العُيون، التي عليها الآن أن تُعيد الرُّؤية للأحداث من منظور مُختلف، ففي ذلك تصحيح لأخطاء كثيرة لا يجِب أن تفُوت بلا تأمُّل. والقصّة بكامِلها، بكل ما فيها من إعلانات ومواقِف ثم تراجُعات ثُم تأكيدات، فقد جسَّدت التوجّهات الإستراتيجية للحركة الشعبية. فالأولوية، هي لشؤون الجنوب ولا اعتبار لشؤون الشمال، والإستِعداد هو للانفِصال، وليس للوِحدة الطَّوعية. وإذا كان العُرس الانتِخابي لم يكُن متألِّقا بما يكفي، إلا أنه مَرّ على خيْر أيّاً كان الفائِز الذي هو معروف، حتى قبل إجراء الانتخابات نفسها. المصدر: سويس انفو