لقد شيعت العدالة المصرية الأحد 11-4-2010م القاضي العادل والمجاهد المستشار يحيى الرفاعي.. الذي لقبه زملاؤه "بشيخ القضاة".. والذي وهب حياته لأشف المقاصد، وفي مقدمتها: 1 تحري العدل بين الناس 2 والجهاد في سبيل تحقيق استقلال القضاء، وتحصينه ضد الاختراق والإفساد. 3 والعمل الدائب لحشد قضاة مصر من خلال "مؤتمر العدالة" في ميدان الدفاع عن الشريعة الإسلامية، مصدرًا أول للتشريع والتقنين في الدولة والمجتمع. كان شجاعًا بقدر ما كان متبتلاً في محراب العدالة، حتى لكأن العدالة هي التي منحته الشجاعة.. وحتى لكأن الشجاعة هي التي منحته الإخلاص في العدل بين الناس. عرفته الحياة العامة منذ أن كان واحدًا من ضحايا مذبحة القضاء سنة 1969م.. ولم يقنع يومئذ بموقف الرفض لاختراق القضاء وتسييسه، وإنما رفع الأمر إلى القضاء، يوم أن كان لا يجرؤ على التفكير في مثل ذلك إلا أولوا العزم من المجاهدين!. ولقد شاء الله أن يكون تعرفي على المستشار يحيى الرفاعي في ظروف غريبة، تستحق أن يشار إليها.. ففي سنة 1971م طلبت مني مجلة "الطليعة" وكانت تصدر عن الأهرام كتابة "ملف" من المعركة الفكرية التي أثارها صدور كتاب (الإسلام وأصول الحكم) لعلي عبد الرازق سنة 1925م.. ولم تكتف المجلة بنشر الدراسة التي كتبتها، وإنما نشرت نص الكتاب في باب "الوثائق" الذي تزيل به صفحاتها.. وفي العام التالي صنعت المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ذات الشيء نشرت الكتاب ملحقًا بالدراسة.. وعندما تنبه ورثة علي عبد الرازق لنشر كتاب والدهم دون إذن منهم رفعوا الأمر إلى القضاء، لكنهم بدلاً من أن يخاصموا الناشرين اختصموني أيضًا في هذه الدعوى.. وبعد نحو عشر سنوات من التقاضي.. وبعد أن خسرتُ القضية في الابتدائي وفي الاستئناف.. وجدتني مطالبًا بأن أدفع لورثة علي عبد الرازق أثنى عشر ألف جنيهًا وكان مرتبي يومئذ لا يزيد على الثلاثين جنيهًا! وزاد الطين بلة والمأساة ملهاة أن الطليعة أفلتت من الخصومة، لأن الدعوى رفعت خطأ على رئيس تحرير الأهرام، وليس رئيس مجلس الإدارة.. وأن المؤسسة العربية ببيروت قد اختفت بفوضى الحرب الأهلية اللبنانية.. وهكذا جاء "المحضر" إلى الشقة التي كنت أسكنها منذ كنت طالبًا، فحجز على ثلاجة 6 قدم وتلفزيون 14 بوصة أبيض وأسود وعدد من الكراسي!.. ولقد حمدت الله على أن "الحجز" لم يصل إلى المكتبة التي هي أهم وأثمن محتويات المنزل.. وأمام النقض جاء اللقاء، فصدر حكم البراءة، الذي مثلت حيثياته قطعة من الفن القانوني، ضمنها "المكتب الفني" بوزارة العدل إلى سجلاته.. ولم أدر يومئذ من هو القاضي الذي أنقذني من قلق السنوات العشر، وأنقذ منزلي من "حجز" ورثة علي عبد الرزاق، إلى أن كان يوم تشييع جنازة العالم الجليل الشيخ زكريا البري، عندما صافحني رجل مهيب الطلعة، وقال لي: إنه المستشار يحيى الرفاعي.. وأضاف: "لقد كان لي شرف نظر قضيتك حول كتاب الإسلام وأصول الحكم". ومنذ ذلك التاريخ توثقت علاقات الفكر والمودة والمحبة بيني وبين شيخ القضاة النموذج الذي يعيد إلى الأذهان صورة السنهوري باشا، في الدفاع عن الشريعة وعن استقلال القضاء رحمه الله..