نجحت أمس المليونية التي دعا إليها الإخوان والجماعة الإسلامية في ميدان رابعة العدوية بحضور عدد كبير، أيًا كان الرقم مائة ألف أو اثنين مليون حسب اختلاف تقديرات المؤيدين والمعارضين، لكن الناتج السياسي للمليونية كان سلبيًا بامتياز، لأسباب عديدة، أولها أنها كرست صورة مصر كدولة منقسمة، ومجتمع مشطور، فلم يكن هناك من يشكك في أن الإخوان أو غيرهم من قوى التيار الإسلامي يملكون القدرة على الحشد، فلم تضف المليونية جديدًا في هذا المجال، ولكنها في النهاية عززت صورة مصر بعد عام من تجربة الرئيس مرسي في الحكم كمجتمع منقسم ودولة منقسمة، وهو ما يفرض تصورات ورؤى ومسارات أخرى لبناء الدولة والمستقبل إذا أراد الرئيس أو أي طرف في المعادلة أن تكون هناك دولة أو وطن أو مستقبل، لأنه بدون الوصول إلى توافق أو حلول وسط أو قاسم مشترك فإن مصر تكون أمام خيارين، إما الاستنزاف المتتالي للدولة ومقدراتها وتعزيز الفوضى وشلل أجهزة الدولة أمام انقسام الوطن انتهاءً بالانهيار التام، وإما المواجهة الإقصائية الحاسمة والعنيفة بين الجميع والتي تفرض بقوة السلاح ولا تنتهي إلا أن يتدخل الجيش لحسم الأمور وتعليق كل شيء وتدشين مرحلة انتقالية جديدة، ولا ثالث لهذين السبيلين، الأمر الآخر الذي جعل حصاد تلك التظاهرة سلبيًا تلك اللغة الخطيرة التي قدمت فيها، وقد حرص الإخوان على أن يختفوا من صدارة المشهد المثير بنسبة كبيرة ، وتم تصدير بعض الأصوات الخشنة والعنيفة من حلفائهم فظهر خطاب عنيف جدًا ويتوعد بالسيف والرمح والدم والسحق للمعارضين في مليونية كانت ترفع شعار "لا للعنف"، كما أن بعض الذين تحدثوا على المنصة الرئيسية توعدوا الشعب المصري والقوى المعارضة بإعلان الثورة الإسلامية في حال تعرض نظام الرئيس مرسي لمكروه، وكنت أتمنى ألا يطرح المشروع الإسلامي كفزّاعة وسلاح يتم تهديد الناس به، وهو الذي نقدمه للناس رحمة وهداية وسماحة وسعة في الدنيا والآخرة، فتقديمه بوصفه عقوبة أو تأديبًا للبشر أو نكاية فيهم ليس موفقًا أبدًا، وكان بالإمكان إرسال الرسالة المطلوبة إلى المعارضة بأسلوب آخر تقتضيه الحكمة والنظر البعيد، كما أن فكرة إعلان الثورة الإسلامية التي يهدد بها البعض كل حين حتى أصبحت ممتهنة من كثرة ذكرها هي فكرة بالغة الخطورة، وتعني الدخول في صدام دموي مروع على الطريقة الجزائرية ليس مع المعارضة فقط، وإنما مع مؤسسات صلبة لا يمكن أن تسمح بمثل هذا السيناريو، وبالتالي فطرح هذه الأفكار الآن وفي ظل هذا الاحتقان هو عمل انتحاري بكل المقاييس لأبناء المشروع الإسلامي، ومن تحصيل الحاصل أن نصفه بأنه كلام غير مسؤول ورعونة كوادر تحتاج إلى تأهيل كافٍ للاشتغال بالعمل السياسي، أيضًا المليونية أعادت التذكير بأن فكرة الدولة في مصر ما زالت رخوة بعد الثورة، وأن القرار والمصير السياسي ما زال كامنًا في الشوارع والميادين والساحات، أكثر مما هو في مؤسسات الدولة وسلطاتها الرسمية، لأن العرف جرى على أن المعارضين للسلطة هم الذين يحتشدون لاستعراض عضلاتهم وغضبهم معًا، بينما السلطة تمتلك وتستخدم أدواتها الرسمية ومؤسسات الدولة لاحتواء هذا الغضب أو التجاوب معه حسب مستوياته، وإذا عجزت السلطة عن إدارة الدولة أو أن تتوافق مع مؤسساتها فهو إعلان فشل يستوجب الاستقالة الطوعية أيًا كانت المبررات، فالاستعراض الذي حدث أول أمس هو اعتراف ضمني أيضًا بأن البلاد تعيش في مرحلة استثنائية وانتقالية يصعب الاحتكام فيها إلى القوالب السياسية والديمقراطية المعتادة وأنها تحتاج إلى توافق وطني حقيقي قبل الصندوق وقبل الديمقراطية ، أيضا من سلبيات الحشد أنه قدم خدمة مجانية لخصوم الرئيس ، إذ استعدى في تلك الليلة قطاعات لا يستهان بدورها وأهميتها ، فأهين الجيش وأهينت الشرطة وأهين الأزهر وأهين القضاء وأهين الإعلام ، وتلك رعونة لا يمكن فهمها وفق أي منطق سياسي . أنا أعذر المشاركين في مليونية أمس وبعض الأصوات الغاضبة، وأثق في نبل دوافعهم وجدية مخاوفهم من أن هناك على الطرف الآخر من يبتزهم ويهدد وجودهم ذاته، وبعض تلك المخاوف في محلها وصحيحة بالفعل مع الأسف ، كما أن هناك بعض التصريحات غير المسؤولة من جانب محسوبين على جبهة الإنقاذ والمعارضة لا تقل عنفًا وخشونة ووعيدًا مستهترًا ومستفزًا ، وتبعث برسائل أن البديل الافتراضي لا يؤمن بديمقراطية أو دولة قانون ، ولكني كنت أتمنى أن يجتهد الإسلاميون في بناء جسور عاجلة وطرح مبادرات لإنقاذ الوطن وحماية مستقبله بدلًا من حصر جهدهم في الاستعداد للنزال والصدام الدموي لأنهم المسؤولون قبل أي حزب أو جهة أخرى عن بناء الدولة الحديثة، كنت أتمنى أن نبذل معشار هذا الجهد الذي بذلناه للحشد في البحث عن حلول وعن توافق وطني وعن تفكيك الاحتقان وعن مبادرات حقيقية لإنقاذ الوطن، فحريق الوطن إن حدث لا سمح الله سيطال كل من فيه بلا استثناء، ولا يصح أن يكون هذا الحريق هو حصاد أول تجربة للإسلاميين في الحكم في عيون العالم بعد أن طال انتظارهم وتبشيرهم بهذه الفرصة. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.