في مصر تجري هذه الأيام أكبر جماعة سياسية ودينية "الإخوان المسلمين" عدداً من الحوارات غير المسبوقة مع أحزاب وجماعات سياسية إما علمانية، وإما على عداوات تاريحية وأيديولوجية من شأنها أن تعيق أية محاولة جادّة للحوار والتواصل، وتجاوز "جراحات" الماضي. تأتي تلك المبادرة بعد التغييرات التي حدثت على قمة الهرم التنظيمي عقب استقالة المرشد السابق فضيلة الأستاذ مهدي عاكف رافضاً "التمديد"، خارجاً بذلك عن المألوف في كافة الأنساق السياسية المصرية "رسمية"، و"معارضة"، و"مستقلة"، والتي باتت جزءاً من تأصيل ثقافة "التأبيد" على الكراسي، والتي أعاقت تجديد الأجيال داخل المجتمع السياسي المصري، أكثرمن ثلاثة عقود مضت. التجديد "الديمقراطي" داخل الجماعة، ترتب عليه بعض الانطباعات والتكهنات، خاصة بعد خروج شخصيات وُصفت ب"المعتدلة"، والتي كان يُعتقد بأنها تمثل تيار الانفتاح على التيارات السياسية المخالفة؛ إذ توقع المراقبون بأن الحركة ستعطي الأولوية للتنظيم عن العمل العام، لاسيما بعد تكلفة الأخير الباهظة، حيث تلقت الجماعة ضربات أمنية قوية استهدفت قوتها الاقتصادية من جهة، والحركيين الأكثر نشاطاً وانفتاحاً من جهة أخرى. ويبدو لي أن "الحوارات" الجارية الآن تأتي في سياق الرغبة في تصحيح تلك الانطباعات، فيما باتت الجماعة في حاجة إلى قوة "مدنية" اعتبارية تعمل تحت مظلتها؛ إذ تظل النخب العلمانية في مأمن من المضايقات الأمنية، وتحظى بحصانة "دولية" تعصمها من الاعتقال، وتحيلها إلى مرجعية حقوقية مسموعة لدى الدوائر الغربية، ولعل الإخوان يبحثون من خلال هذه الحوارات عن تلك "المظلة" عشية الانتخابات البرلمانية والرئاسية القادمة، والتي من المتوقع أن تكون هي الأعنف في المواجهات المحتملة بين الدولة والإخوان. ولكن في الوقت ذاته فإنه من الواضح أن الجماعة بصدد البحث عن "مدونة" وطنية في الداخل المصري، مستقاة من تجربة حزب العدالة التركي.. إذ بات الأخير وخبرته الأخيرة أحد أكثر النماذج التي تُستخدم اليوم في نقد الإخوان سواء من التيارات المعادية لها أو من قبل النخبة المتعاطفة معها، من خلال أشهر الأسئلة المطروحة هذه الأيام وبقوة على القيادة السياسية للجماعة وهو: لماذا نجح الإسلاميون في تركيا وفشل الإخوان في مصر؟! والحال أن المسوّغ الذي يستند إلى خصوصية التجربة المصرية ومفارقتها للخبرة التركية، لتسويغ عدم شرعية مثل هذا السؤال، يحتاج فعلاً إلى مراجعة؛ لأن مصر وتركيا تكادان تتشابهان في كثير من القواسم المشتركة التي تقتضي أن يراجع الإسلاميون المصريون -وعلى رأسهم الإخوان- موقفهم من مسألة "الخصوصية"؛ لأنها قد باتت سبباً للتثاؤب الفكري والتنظيمي، ومعوقاً للمراجعات الجادّة، وتستخدم أحياناً للحفاظ على "مصالح" آنية يتهددها تفكيك التنظيم في بنيته القديمة، وإعادة تركيبه وتطويره على النحو الذي يمهد لأن يجعل من الإسلاميين جزءاً من السلطة، وليس خارجين عليها. في مصر قوى علمانية متباينة؛ فمنها المتطرف والمعتدل، والعلماني "الجزئي" أو "المؤمن" على حد تعبير الراحل عبد الوهاب المسيري. صحيح أنها لا تمثل تياراً اجتماعياً كبيراً يعادل الإخوان، ولكنها مؤثرة في القرار السياسي الرسمي.. وقلقة من أي مشروع سياسي يقدم نفسه ب"لافتة إسلامية"، ولكنها في ذات الوقت قد تقبل التعاطي معه مجرّداً من فكرة "اللافتات"، ولعل ذلك ما يعطي لحزب الوسط "تحت التأسيس" قبولاً في الأوساط العلمانية، على الرغم من أنه ذات مرجعية إسلامية، ومعروف أنه تيار منشق عن جماعة الإخوان المسلمين. التيار العلماني في مصر موجود ك"حقيقة"، كما أن الإخوان موجودون كحقيقة سياسية هي الأكبر والأهم.. ولن يستطيع أحدهما تحقيق انتصار نهائي وحاسم على الآخر.. وذلك يقترب بشكل كبير من تضاريس "الخريطة" السياسية الداخلية في تركيا، مع فارق بالغ الأهمية، وهي أن العلمانية التركية شديدة التطرف، بل وأكثر تطرفاً من العلمانية اللائكية في فرنسا، وتحظى بحماية مؤسسات تعليمية وقضائية وعسكرية، تُعدّ الحضانات الكبرى للمتطرفين العلمانيين، وهو ما يجعل مهمة الإسلاميين المصريين أكثر يسراً، في حال خلصت النوايا للاستفادة من تجربة حزب العدالة التركي. [email protected]