أعلن متمردو مصر الثائرون أنهم سينزلون إلى شوارع مصر المحروسة في الثلاثين من يونيه، من أجل تحقيق مطالب عدة، بعضها يعد إيجابياً وبعضها الآخر لا يمكن الحكم عليها بالسلبية، ولكن بالمطالب الغامضة المشوشة، والمطالب يمكن حصرها في إسقاط النظام الحاكم ومحاسبة جماعة الإخوان المسلمين بتهم إفساد الحياة العامة في مصر وليست السياسية فقط، كما كان العهد للحزب الوطني الديمقراطي المنحل، وكذلك عدم ممارستها لأي عمل أو نشاط علني على أرض المحروسة، وضرورة تشكيل مجلس رئاسي مؤقت، وتقويض أركان ودعائم مجلس الشورى، وعودة الإدارة العسكرية لحكم البلاد والعباد، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ومطالب شتى تتناول العدل والحرية للمعتقلين السياسيين والكرامة الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، وحينما انتبهت قليلاً لهذه المطالب التي تبدو بعض الشىء مضطربة، قفز السؤال التقليدي إلى رأسي: هل ستنجح هذه الانتفاضة في تحقيق أغراضها؟ وقد يظن المستقرئ لتلك المطالب أن تحقيقها سهل يسير، ولكن أجبت عن سؤالي بإجابة تبدو هي نفسها مضطربة أكثر وتحتاج إلى تفسير وتعليل وتأويل: وهل نجحت الثورة المصرية ذاتها في تحقيق أغراضها التي قامت واشتعلت من أجلها؟ إن الثورة نفسها لا تزال حائرة بين الغرض والنتيجة، وبلغة أهل اليسار المطرقة والسندان، والذي أدى إلى تفاقم الفجوة والهوة التي صارت سحيقة بين الغرض من الثورة ونتائجها هو تفاقم منظومات القيم وتفسخ الثقافات والأيديولوجيات التي كانت راهنة آنذاك، والتي تفجرت ينابيع غضب بعدها، فالمحظور صار شعبياً وشرعياً متمتعاً بممارسة الحريات السياسية والاجتماعية، والذين غدوا صغاراً بحسب أعمارهم أصبحوا نشطاء يحركون المشهد السياسي المصري الذي كان يتحكم في بوصلته حفنة من الضاربين في العمر والخبرة وتدبير تفاصيل هذا المشهد. وهؤلاء الذين يدشنون حركات ثورية وائتلافات غاضبة هم أنفسهم الذين صنعوا تلك الفتنة التي جعلت الوطن يمر بمرحلته الانتقالية بحركة الكسيح الأعرج، وصار الكل في مصر بحكم تكوينهم الفرعوني الضارب في الأزل لا يفطن لثقافة تنتج، اللهم سوى ثقافة العداء والتطاول والهجوم ولا نستثني أحداً من هذه الثقافة غير المكتسبة، لأنها بالفعل فطرية التكوين، بدءاً من المؤسسة الرسمية انتهاء بأطفال الشوارع. ولا يمكننا التغافل طوعاً على توجه الشاطئ الآخر في مصر، أعني المؤيدين لسياسة وجماعة الرئيس الشرعي للبلاد، وكذلك بعض الفصائل والتيارات الدينية التي تصر عن غير إرادة حقيقية على ممارسة فعل السياسة، وما يسببه هؤلاء أيضاً من تفاقم وانهيار تدريجي لانتقال مصر بصورة سلسة طبيعية نحو بر الأمان. ويبدو أن المصريين بغير تعميم قد فقدوا القدرة على التمييز بين التمرد والثورة، فبينما هم يفطنون ويدركون معنى الثورة بأنها التغيير الجذري القوي والعنيف والمزلزل للنظام السياسي والاجتماعي القائم، وهذا حدث ويحدث دائماً عن طريق تنامي وعي الطبقات والفئات المضطهدة والمقهورة، وهذا التغيير لا يقف عند حدود إسقاط نظام سياسي فحسب، بل يرمي غالباً كما تشير أدبيات الثورات العالمية إلى الإصلاح والتطوير والنهوض بالوطن، لذا ظهرت مصطلحات مثل الثورة الزراعية والثورة الصناعية والثورة الاقتصادية والثورة الثقافية، وبالقطع الثورة السياسية، أي قدرة الشعب على السيطرة على قطاع معين والنهوض به. وكان من المفترض أن تقوم الوجوه الداعمة للثورة بتكوين أشكال تنظيمية جديدة تتحد مع بعضها البعض، لتحقيق أغراض ومطامح الثورة، ولكن غلبت سمة الفوضى على ملامح الانتفاضة الشعبية فيما بعد، مما هيأ البلاد والعباد إلى مرحلة التمرد التي هي عليها الآن. والفوضى التي نلمح إليها ظهرت تفاصيلها في الاستخدامات السياسية المكثفة التي حرص المصريون بعد ذلك على ممارستها قبل التعرف على كنهها أو إدراك طبيعتها، لذا لم يفرق بعض المصريين بين الاقتراع العام وبين الامتناع عن التصويت، فظهرت الإضرابات والاعتصامات وقطع الطرق في ظل انفلات أمني ورقابي وأخلاقي بعض الوقت. وظهر الإخفاق الواضح في التحالفات البرلمانية داخل المجلس الشعبي المنحل، وكان من المفترض أن يصل هذا البرلمان إلى صورة مثالية من التحقيق البرلماني. وبعد ذلك عمت البلاد فوضى استخدام مصطلح التطهير الذي لا يزال يمارس ولكن بشكل رسمي مؤسسي بخلاف الصورة التي كانت عليها وقت الثورة والأيام التي لحقتها، ولم يعد يفرق المصريون بين الانتماء للنظام السابق من التعاون معه ومن الداعمين له، فهرع الجميع حتى النواب في مجلس الشعب المنحل إلى استخدام مصطلح التطهير بنكهة مصرية خالصة وبغير فلسفة ضابطة أو شرائط حاكمة، وبدلاً من أن يتم استخدام التطهير تم اعتماد الطرد كفلسفة مقاربة للتطهير. وهذا ما يؤكد شيوع حالات الفوضى السياسية التي كانت من أبرز أسباب عدم تحقيق الثورة لمطالب الثوار. أما التمرد الذي فاجأ المشهد السياسي بتداعياته غير الممنهجة، اللهم سوى بعض التحركات التي قادها شباب وشيوخ العمل السياسي، زاعمين بمنطق التيارات المناوئة لها، واثقين بمنطقهم بجدوى سحب الثقة من الرئيس المنتخب بإرادة شرعية وبصناديق ديمقراطية، قلما التجأت إليها الفصائل التي أوصلت الدكتور محمد مرسي لسدة الحكم، وحينما افتقد المصريون إلى وجود تنظيم شعبي يضمهم وفي ظل غياب تام لمشروع سياسي قومي، كان التمرد هو النتيجة الطبيعية لعدم التجانس في الغرض والمطمح والوسيلة. وبين الثورة التي لم تكتمل، والتمرد الذي يعصف باستقرار وطن يمر بالمرحلة الانتقالية العصية، نكتشف أن المصريين يعانون مرضاً مزمناً وهو فقدان الثقة المفاجئ، فنجدهم في الوقت الذي يؤيدون فيه قرارات الرئيس الدكتور محمد مرسي وبعض إجراءاته، يخطئون الظن بأنه يتصرف من نفسه، وحينما لا تعجبهم بعض القرارات أو التوجهات يرمون جماعته بسيل من الاتهامات، بوصفها الصانع الحقيقي لاتخاذ الرأي والقرار السياسي. وعلى النقيض من يتعاطف نسبياً مع جبهة الإنقاذ والتيار الشعبي والكتل الرياضية التي انشغلت بالسياسة والمعروفة بالألتراس، وسرعان ما يتحول هذا التعاطف إلى حملات غضب شرسة تجاه سياساتها ورموزها وأفكارها تصل أحياناً إلى حد العمالة والتخوين والعمل وفق أجندات أجنبية مشبوهة.