مرة أخرى يعيش البيت الأبيض على وقع فضيحة جديدة من جملة فضائح قضت مضاجع الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن. ففي سرية تامة، قامت الحكومة الأمريكية بجمع أقصى ما يمكن جمعه من المعلومات التي تخص الملايين من الأمريكيين من خلال التصنت على المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية من أجل تكوين قاعدة بيانات ومعلومات تغطي كل التراب الأمريكي، وفق ما نقلته يومية (أو إس إي توداي) من مصادر مطلعة لم ترغب عن كشف أسمائها. الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن، وللتقليل من الصدمة، صرح بأن النشاطات الاستخبارية التي سمح بها وأعطى موافقته، شرعية وقانونية، وأن الوكالات الحكومية لا تقوم بالتصنت على المكالمات الهاتفية الداخلية إلا بعد استصدار أمر قضائي من المحكمة. البرنامج الجديد لا يقوم بالتصنت أو تسجيل المكالمات مباشرة، لكن الهدف منه هو معرفة من يكلم من؟! خلال المكالمات الشخصية أو المهنية، المحلية أو البعيدة المسافة، بعد التعرف على الأرقام المسجلة، وبالتالي كشف الشبكات الإرهابية "النائمة"، بعد أن تدخل هذه الأخيرة في اتصالات فيما بينها، ومعرفة مدى العلاقة التي تربطها. * حجج واهية.. من أجل قبضة أمنية! إن الحجة التي قدمتها وكالة الأمن الوطنية الفيدرالية لتبرير تجسسها على ملايين الأمريكيين، تتمثل في صعوبة ضبط تحركات واتصالات الشبكات "الإرهابية" المتخصصة في اتخاذ الحيطة والتستر في اتصالاتها، كونها تنشط وفق سلم مسؤوليات سرية غير واضحة المعالم تشوبها الكثير من الضبابية، والحركة الدائمة للعناصر النشطة التي تتغير كلما تتطلب الأمر ذلك، مما يصعب الكشف عنها، وبالتالي يجعل من عمل الشرطة أو الاستخبارات المحلية بلا معنى. ومن خلال التجسس على كشوفات المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية، يسهل تحديد كل العلاقات التي تربط شخصا ما —تحت الرقابة— بمحيطه وعلاقاته مع أشخاص آخرين. وقد حاول أركان الإدارة الأمريكية، بما فيها أعضاء في الكونغرس من الحزب الجمهوري، تجاوز "الفضيحة" بالقول إنه تم في زمن الحرب على الإرهاب العالمي، وأنهم يواجهون عدوا شرسا مخفيا، ولذلك لا بأس من انتهاك بعض القوانين من أجل صالح الأمة الأمريكية. لقد كان رد فعل الصحافة وأعضاء من الحزب الديمقراطي وجزء كبير من الرأي العام، قويا، وعلى إثر ذلك تعهد الكونغرس بأن يفتح تحقيقا في الأمر لاستجلاء الحقيقة. منذ أحداث سبتمبر 2001، قامت شركات الهاتف (أي تي) و(تي)، (فيريزون) و(بل ساوث) بتسليم أرشيف ضخم، يتكون من ملايين المكالمات الهاتفية والرسائل الإلكترونية، إلى وكالة الأمن الوطنية الفيدرالية (إن اس أي) التي كانت قد "تورطت" من قبل بعد كشف (نيويورك تايمز) أمرها للرأي العام الأمريكي، في برنامج -مختلف فيه- يقوم على التصنت على فئة من الأمريكيين يعدون بالآلاف يقعون في دائرة "المشكوك فيهم"، وتحت طائلة الوقاية من الإرهاب!! وكان الرئيس الأمريكي قد اعترف السنة الماضية (2005) بسماحه لوكالة الأمن الوطني بالتجسس دون موافقة مبدئية من المحكمة، على المكالمات الهاتفية الدولية لأمريكيين متهمين بعلاقاتهم بالإرهابيين، اعتبر في حينه مخالفة في حق الدستور الأمريكي وتجاوزا لصلاحيات الحكومة. مصادر مطلعة ومتابعة أشارت إلى أن "قاعدة البيانات الهاتفية التي جمعت منذ 11 سبتمبر 2001 تعتبر الأكبر على المستوى العالمي"، وأن القضية أصبحت تحوز اهتمام الرأي العام الأمريكي، رغم أنه في المحصلة العامة وافق على التنازل عن بعض حقوقه الدستورية لصالح أمنه الخاص وأمن أمريكا! ففي أحدث استطلاع تناوله الصحافة الأمريكية، أن الرأي العام الأمريكي لا يقاسم مخاوف الإعلام والبرلمانيين في مجلس الشيوخ بخصوص تقليص الحريات الفردية والتدخل في الشؤون الخصوصية للأمريكيين، حيث إن 63 % منهم يعتبرون حجز كشوفات المكالمات الهاتفية مشروعة ما دامت تخدم أمن الأمريكيين، وأن 65 % يعتبرون التحقيق في المخاطر المحدقة بهم "أكثر أهمية" من احترام الحياة الخاصة لهم. * احترام الحياة الخاصة في قلب النقاش الأمريكي نستفيد من الاستطلاع الأخير الذي نشرته الصحافة الأمريكية حول مدى احترام الخصوصية الأمريكية الذي فقد كل معانيه السامية بعد أحداث 11 من أيلول، أن نقاشا جادا أصبح يفرض نفسه في الأوساط الفكرية والسياسية والحقوقية، نجمله فيما يلي: أولا: الرقابة الإلكترونية التي وضعتها وكالة الأمن الوطنية تنتهك أول المبادئ الذي شرعها مؤسسو الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1788: (الحق في حياة خاصة). وفي هذا الإطار، فإن النقاش قد يطول ويصعب ضبطه، وقد يتشعب إلى عناوين أخرى لا علاقة لها بالموضوع الرئيسي، بعد أن سمح المواطن الأمريكي باسم "فزاعة" الحرب على الإرهاب العالمي، التنازل عن بعض حقوقه الخاصة من أجل المصلحة العامة، لصالح الحكومة المركزية في واشنطن.. ثانيا: هل الإدارة الأمريكية كانت تعلم، بعد وضع برنامج مراقبة المكالمات الهاتفية، بالإجراءات القانونية؟ وأين حدود احترامها لها؟ ثالثا: أيعقل أن يكون جورج بوش الابن قد تجاوز كل الحدود التي كانت تضبط من قبل عمل أي رئيس أمريكي في حالة الحرب والسلم؟ وأين موقعه من سياسة الغاية تبرر الوسيلة المتبعة حاليا في إدارته؟ رابعا: قد يتشعب النقاش بالإقرار مسبقا بأن بوش ليس لديه ما يخسره بعدما لعب كل "أوراقه" السياسية والحربية والاجتماعية والقانونية والشعبية، وأن الورقة الوحيدة الباقية له الناجية له، عصا "سحرية" تنقض على مجاميع "الإرهاب" داخليا أو خارجيا، في هذه الحالة فقط قد ترتفع أسهمه وأسهم حزبه الجمهوري الحابطة في سوق الانتخابات التشريعية والرئاسية القادمة، بعد أن بنى كل إستراتيجيته على التخويف من بعبع "الإرهاب العالمي". لكن هذا مستبعد تحقيقه آنيا أو على المدى البعيد، فلا بن لادن ولا الزرقاوي ولا الملا عمر ولا غيرهم على استعداد لتقديم "هزيمة" لهم على طبق من ذهب، خلاف تورط الإدارة الأمريكية الحالي —كل يوم- في حربها ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق الذي اعتبر، عند الكثير من المحللين العسكريين، نصرا للذين تنعتهم أمريكا ب"الإرهابيين". أخيرا، إن الانتهاكات العديدة والخطيرة التي ارتكبتها إدارة جورج بوش الابن خلال فترة تزعمها مقاليد الحكم في أعرق ديمقراطيات العالم، تركت بصمات سلبية للغاية على سمعة الولاياتالمتحدةالأمريكية، قد يتطلب عقودا طويلة من الزمان لإصلاح ما تم إفساده على جميع المستويات والأصعدة.. من أول يوم فاز فيه جورج بوش الابن بالرئاسة، وبطريقة عسيرة تشوبها الكثير من الشكوك في أحقيته بمنصب الزعيم الأول للولايات المتحدة، والفضائح تترى، إلى أحداث الحادي عشر من أيلول 2001، تاريخ مصادرة إدارة بوش حرية التعبير لفئة من الأمريكيين، عبر سن قانون ( باتريوت آكت)، وشن الحرب على أفغانستان والعراق بحجة مكافحة ما يسمى "الإرهاب العالمي"، متجاوزة بذلك "شرعية" الأممالمتحدة، ومنتهكة القانون الدولي وحقوق الإنسان، وارتكاب الجرائم في سجن أبو غريب وغوانتنامو، واختطاف الأشخاص بحجة محاربة الإرهاب والاحتفاظ بهم في سجون سرية خارج الولاياتالمتحدة، وفضيحة ضحايا إعصار كاترينا، والتجسس داخل وخارج الولاياتالمتحدةالأمريكية على مواطنين أمريكيين وغيرها من الانتهاكات التي يتم الكشف عنها إعلاميا كل يوم. والآن وقد كشف عن الفضيحة الجديدة، في انتهاك صريح لقيم حقوق الإنسان والحق في التعبير وحماية القانون على كل المستويات، يحق لنا طرح السؤال: ماذا ستكون عليه نتائج المساءلات والتحقيقات التي كثرت وتعددت، كأنها أكلات ال"ماك دونالدز" السريعة؟ وهل ستقف إدارة بوش على هذا النحو بدون حراك بعد فقدانها الكثير من الاحترام الذاتي داخليا وخارجيا، وهي على أبواب انتخابات تجديد الكونغرس، والحسم في ملفات دولية ساخنة لا تقبل الانتظار، علما أن كل المؤشرات والتحليلات والاستطلاعات تشير إلى أن هزيمة نكراء تطل على أبواب الحزب الجمهوري؟ المصدر : العصر