العلماء الحقيقيون علامات ومنارات فى الطريق، تقتدى الأمة بسلوكهم، مثلما تهتدى بعلمهم.. يتفقون، ويختلفون، لكنهم يحفظون الأقدار ويلتمسون المعاذير؛ فأهل البيان وحملة المشاعل وعناوين العلم وشارات الهداية حين يختلفون؛ فلأنهم يتحرون الحق ويتلمسون آثاره، فإذا تبين لهم عكس ما يقولون، تراجعوا وبينوا، ولم تقف ذواتهم وقيمتهم ومكانتهم الكبيرة حائلاً بينهم وإبداء الحق، والاعتراف بالخطأ وإبداء الندم؛ فكثير من الناس لا قيمة لكلامه حين يؤيد، ولا قيمة له حين يندد، وحيث يتراجع لا يشعر به أحد، ولا يرى داعياً فى الاعتراف بالتراجع، فمن ذا الذى سيذكر ما قلته ابتداءً، ولأى داع أذكر الناس بأخطائي، وذاكرة الشعوب قصيرة! لكن من يدرك قيمة كلامه، ويتحمل المسئولية لا يبالى إن قيل تراجع فلان، ما دام سيحافظ على الأمانة الملقاة على عاتقه، ويلتزم بالميثاق المأخوذ عليه {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه}. قبل سنين، كانت الحرب قائمة بين "حزب الله" و"إسرائيل"، وحصلت فتنة بين الناس فى فكرة تأييد الحزب ضد "إسرائيل" أو الاعتبار بأن هذه ليست معركتنا، ولا حاجة لأن نكون طرفاً فيها، ولقد جرى اختلاف واضح حينها بين رمزين كبيرين، هما العلامتان ابن جبرين رحمه الله، والقرضاوى حفظه الله، وحينها اتخذ الأخير موقفاً مؤيداً ل"حزب الله" بخلاف الشيخ ابن جبرين.. وبعد عامين، (2008) كان علماء السعودية وفى صدارتهم الشيخ ابن جبرين رحمه الله، يوقعون على بيان لنصرة الشيخ القرضاوى ضد حملة الشيعة عليه لرفضه محاولاتهم لنشر التشيع. مرت السنون، وجلس الشيخ القرضاوى فى مؤتمر لنصرة سوريا بالعاصمة القطرية يعترف بخطأ كان قد وقع فيه بمحاولته للتقريب بين المذاهب، (ويبين أنها ليست مذاهب بل فرق)، وآخر فى تأييد "حزب الله" الموالى لإيران، يصف الحزب صراحة بأنه "حزب الشيطان"، وبأن قائده "نصر الله" ما هو إلا "نصر الطاغوت".. يقول: "دافعت والله عما يسمى حسن نصر الله وهو ليس نصر الله، وإنما ينصر الشيطان الذى يسمى حزبه حزب الله، وهو حزب الطاغوت وحزب الشيطان.. هؤلاء يدافعون عن بشار الأسد"، ثم يدلى بشهادته التاريخية، قائلاً: "وقفت ضد المشايخ الكبار فى السعودية (...) ويبدو أن جماعة المشايخ فى السعودية كانوا أنضج منى وأبصر منى لأنهم عرفوا هؤلاء على حقيقتهم بأنهم ليسوا ناصحين للمسلمين، هم كذبة فى قولهم إنهم يعملون لنصرة المسلمين".. إنه اعتراف شجاع من عالم له قصب السبق فى مجالات أخرى كثيرة، وله إسهاماته الكبيرة التى لا تنكر، وهو نمط من الحديث يعلى صاحبه ويزيده رفعة. إن العلاقة بين العلماء المسلمين هى علاقة تكاملية لا صراعية، ولا تندرج تحت حدود التنافس الدنيوى المذموم، وواجب الإنصاف ألا ينزل الناس فوق منازلهم ولا تحتها، فلكل قدره، ولكل فنه الذى لا يبارى فيه أو يتقنه، ويجوز لهذا أن يكون أنضج من ذاك فى مسألة، وأخوه أعلم منه فى أخرى، ولا يعنى أن يخطئ عالم فى مسألة أن يردد البعض: "إن الفتنة إذا أقبلت عرفها العالم وانغمس فيها الدهماء، وإذا أدبرت علمها الدهماء"! فإن العالم يبقى عالماً وإن جانبه الصواب فى قضية ما.. ومرد الأمر إلى أن نفيد من هذا التصريح من الشيخ، ومن مثله مما قاله: "الشيعة يعدون العدة وينفقون المال من أجل تنفيذ مجازر فى سوريا للفتك بأهل السنة".. "لا أرضية مشتركة بين الجانبين، لأن الإيرانيين وخصوصًا المحافظين منهم يريدون أكل أهل السنة".. حافظ الأسد "ينتمى لطائفة أكفر من النصارى واليهود، كون أتباعها لا يقومون بأى شعيرة من شعائر الإسلام". ووجه الإفادة الأول، أن ما قاله الشيخ وهو من يصنف على أنه أحد أقطاب "تيار الوسطية" يدخل فى سياق علمائى عام، لا فرق فيه بين من يصنف "متشدداً" أو "وسطياً"، "إخوانياً" أو "سلفياً"، "أزهرياً" أو "مستقلاً".. إلى آخر تلك التصنيفات التى يطلقها البعض على هذا العالم أو ذاك، بحق أو بدون، فالجميع يردد الآن ما قاله ابن تيمية وغيره عن الطائفة العلوية (النصيرية)، والجميع هنا يشدد على باطنية النظام الإيرانى وخبثه وخداعه، وإن هذا الإجماع أو شبه الإجماع، ينبغى أن يبنى عليه، ويؤسس عليه فى عزل تلك الفرق عن سائر الأمة، وعدم السماح لها بأن تتسلل خادعة لقطاعات شعبية وجماهيرية فى الأمة الإسلامية؛ إذ الرأى فيهم ليس بدعاً ولا خلافاً بل يكاد يكون محل اتفاق. ووجهها الثاني، أن تلك التصريحات المهمة تعيد البريق لفكرة التحليل العقدى للأحداث، وتنسف حجج من يستبعدها، إذ تظل تجمع أنصاراً لها، فضلاً عن أن الأحداث ذاتها تؤيدها وتبرهن على صدقيتها وتأثيرها، وضرورة الأخذ بها كإحدى أهم أدوات التحليل السياسى العلمية الحقيقية. ووجهها الثالث، أن تلك الشهادة تمهد أكثر لتقريب وجهات النظر بين العلماء بعد زوال واحدة من العوائق التى كانت تعترض هذا التقارب، وهى الموقف من بعض الطوائف المنحرفة، وتفتح المجال نحو التفكير فى إعادة النظر فى تركيبة بعض الهيئات العلمائية التى يحمل عضويتها بعض مراجع تلك الطوائف. ووجهها الرابع، أنها تضرب مثلاً جيداً يتوجب أن يحتذى متى رأى العالم رجحان قول غيره على رأيه، أو صواب غيره وخطئه هو؛ فالواقع أن الشيخ القرضاوى ليس المخطئ الوحيد، وليس عليه أن يعود وحده عن آرائه الخاطئة، مستمسكاً بتلك الشجاعة. ثم فى النهاية، جدير بمن يعتبر الشيخ مرجعاً علمياً له، ممن يتعاطون السياسة، ويوازنون بين الحسابات، ويرتبون الأولويات ويشكلون التحالفات، أن ينظروا لهذه التصريحات التاريخية بعين الاعتبار والتبصر والتدقيق، وألا يغفلوا أنها خرجت من عقل بصير عركته الحوادث، وخبر الحياة، وخاض غمار العلم منذ عقود طويلة، وخلص إلى ما خلص إليه عن تجربة عميقة، ليست بعيدة عن أعماق السياسة ودقائقها. Amirsaid_r@