عندما اشتكى المجلس الأعلى للقضاء قبل حوالى شهر من تدخل مجلس الشورى فى شؤون القضاء والاستهزاء بها وتعمد النظر فى قوانين جديدة تؤثر على استقلالية القضاء دون انتظار للبرلمان "الشرعي" المنتخب ودون العرض على القضاة أنفسهم، كما نص الدستور، ومع تجاهل تام لمشروعات القوانين التى أعدها المجلس الأعلى للقضاء ووزير العدل قبل ذلك، قال لهم الرئيس مرسى إن سلطات الدولة مستقلة وإنه لا يتدخل فى شؤون أى سلطة، وأن مجلس الشورى لا وصاية عليه من الرئاسة، وكلام جميل جدا وديمقراطى للغاية، وبلع القضاة غضبهم وسخطهم من هذا التهرب وخرجوا، وأمس فقط نسى الرئيس مرسى الدرس البليغ فى الديمقراطية الذى أعطاه للقضاة من قبل وسارع قبل أى مسؤول آخر بإصدار بيان فى أعقاب حكم المحكمة الدستورية ليقول إن مجلس الشورى باق وسيمارس صلاحياته التشريعية كاملة وإن الرئيس هو الحكم بين السلطات، وهى مصادرة عصبية ومتشنجة على استقلال السلطات، كان أولى بالرئيس أن يتريث وينتظر أن يتحدث مجلس الشورى صاحب الاختصاص بالحكم عن نفسه، وأن يقرر قراره، فلو رأى مجلس الشورى أن يحل نفسه مثلاً إحساسًا منه بالكرامة الشخصية والحرج من أن يستمر وهو باطل ومعيب فى نشأته، وأنه قام على ظلم الشعب المصرى وسرقة إرادته وأضاع تكافؤ الفرص بين المرشحين، لو حدث، ذلك فكيف يجوز لرئيس الجمهورية أن يقول إنه يبقى رغم أنفه، ولو كان لمجلس الشورى رأى آخر غير حل نفسه، فهو يعبر عن نفسه بعد اجتماعه أو على الأقل يعبر عنه رئيسه، لكن أن يسارع رئيس الجمهورية بعد دقائق من الحكم ليتحدث نيابة عن مجلس الشورى وأعضائه ورئيسه ويقرر ما ينبغى أن يكون، فهذا يكشف عن أن فكرة الشرعية والمؤسسية واستقلال السلطات "أستيك" نفرده ونلمه على مقاسنا وحسب أهوائنا ومصالحنا، وعندما نريد أن نهرب من المسؤولية، والأسوأ مما فعله رئيس الجمهورية هو ما فعله رئيس الوزراء، إذ خرج بيان رئاسة مجلس الوزراء ليقول إن مجلس الشورى باق وإنه سيمارس صلاحياته التشريعية كاملة، وتلك مسخرة جديدة، لأنه لا دخل لهشام قنديل وحكومته فى الموضوع برمته، لا فى المحكمة الدستورية ولا فى مجلس الشورى، هو محض اقتحام غشيم وفاجر من الحكومة لاستقلال السلطات والمؤسسية فى أعمال الدولة، والحقيقة أن ما حدث يكشف لنا بعضًا من أسباب إحساس الناس والقوى الوطنية بأن البلد تدار بالهيصة والصوت العالى وبالذراع وبأسلوب "هى كده"، وسبق أن أكدنا مرارًا أن مثل هذه السقطات تضعف كثيرًا من الثقة بنظام الرئيس مرسى وإدارته لشؤون البلاد، وتعطى أسوأ الانطباعات عن تجربة الإسلاميين بشكل عام فى أول ممارسة لهم للحكم. ردود أفعال كوادر حزب الحرية والعدالة والإخوان كانت كاشفة عن مستوى من العنف والغطرسة والعناد مذهلة، وبعيدة عن أدنى إحساس بالمسؤولية، أو إدراك أنهم يديرون دولة ومؤسسات، بعضهم ندد بالمحكمة وحكمها، وبعضهم سخر منه ووصفه بأنه تحصيل حاصل وهو والعدم سواء، وبعضهم هدد المحكمة بأنهم سيؤدبونها قريبًا بتعديل قانونها لجعلها منظرة وخيال مآتة وعبرة لمن يعتبر، لقد أعطت تلك التصريحات غير المسؤولة الإحساس بأن الدولة منقسمة على نفسها، وأن مصر تعيش حرب تكسير عظام بين سلطاتها، وهذا فى النهاية إعلان فشل لمن يشرف على هذه السلطات ويفترض أنه يحميها جميعًا ويجعلها تعمل فى منظومة متكاملة من الاحترام والثقة والمسؤولية، كان حكم المحكمة الدستورية كاشفًا لبطلان مجلس الشورى، وهى حقيقة معروفة سلفًا منذ الحكم ببطلان مجلس الشعب، ولم تكن مفاجأة، وقد أكدت المحكمة على بطلان المجلس من جديد وأنه قام على باطل منذ نشأته، وأنها أبقت عليه اضطرارًا بحكم الدستور الجديد، لحين تشكيل البرلمان "الشرعي" فينتهى دور "الباطل" فورًا، وهذا يعنى ببساطة أنه غير مؤهل للتشريع إلا فى حدود أكل الميتة، حالة الضرورة الضيقة التى تقدر بقدرها، ويعنى منطقيًا وأخلاقيًا أن المهمة الأولى وربما الوحيدة للشورى الآن هى إنجاز قانون الانتخابات ليتيح للشعب المصرى اختيار برلمانه "الشرعي" المعبر تعبيرًا حقيقيًا عن إرادته، ولكن تعليقات رئيس الجمهورية والحكومة والإخوان تعطى الانطباع أن هذا لن يحدث وستستمر المراوغات والتلاعب بمؤسسات الدولة، وأن هناك إصرارًا على إدخال مصر فى النفق المظلم. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.