في أوائل السبعينيات تم القبض علينا نحن المشتغلين بحقوق الإنسان والتحقيق معنا بواسطة النيابة العامة التي كانت تابعة للرئيس أنور السادات.. وكان وكلاء النيابة في عام 1974 في قضايا أمن الدولة هم "رجائى العربي".. و"صهيب حافظ" و"ماهر الجندي" و"عدلي حسين".. وتطورت بهم الأحداث كما تطورت بنا فأصبحوا بعد ذلك منهم المحافظ ومنهم النائب العام ومنهم من دخل السجن بعد أن غضب عليه الرئيس المخلوع وبعد أن أصبح فى أعلى المناصب.. فكنّا نستدعى للتحقيق من وقت لآخر بسبب وقفة للجنة الحريات بنقابة المحامين.. أو مظاهرة هنا أو هناك.. أو بسبب حضورنا لبعض لقاءات الشيخ إمام في أحد المنازل التي كنّا نظن أنها سرية.. حتى قبض السادات على شخصي المتواضع بتهمة التشهير بسمعة مصر أمام العالم الخارجي.. وبسبب أني كنت أتعاون مع منظمة العفو الدولية للدفاع عن المعتقلين والمعذبين في مصر.. ولكن وللحق لم يكن السادات يبالغ في حبس الناس أو في تعذيبهم بل كان يصدر تعليماته بالحد من التعذيب وانتهاك حقوق الإنسان.. ثم جاء الفصل الثاني على مصر في شكل الديكتاتورية الثانية التي نظمها الرئيس مبارك.. وكالعادة كان لابد من أن أزور السادة المحققين من وقت لآخر.. كما كان لابد من أن أزور السجون من وقت لآخر.. فكنت أحيانًا أمكث سجينًا لعام كامل وكنت في أحيان أخرى أنفق ثلاث سنوات من عمري تنفيذًا لحكم صادر من قضاء عسكري.. ولكني دائمًا كنت أعرف أن وقوفي ضد التعذيب هو المشكلة التي تؤرق سيادة أي رئيس يأتي إلى مصر.. فالديكتاتور دائمًا يلجأ إلى أقصر الطرق في إرهاب الناس.. وأقصر الطرق دائمًا هي إهدار الكرامة الإنسانية واستخدام التعذيب.. وأنشأ الرئيس مبارك لدى النائب العام الذي عينه بنفسه مقبرة صغيرة ليدفن فيها النائب العام وقتئذ كل بلاغات التعذيب التي كانت تقدم له.. ثم تشيع الجثامين لهذه البلاغات بصورة سرية ولا عزاء للضحايا.. ولا أعتقد أن حسني مبارك قد قام بحبسي إلا بسبب التعذيب أيضًا.. فتارة حبسني بسبب الترافع في قضايا الرأي.. ولأن المتهمين على ذمة بعض القضايا السياسية أصروا على طلبي كدفاع عنهم.. فكانت النتيجة أنني عشت معهم في الزنازين لمدة عام.. وفي المرة الثانية تم الصراع بيني وبين وزير داخلية مبارك في البرلمان المصري فواجهته في عدة استجوابات بما يقوم به من تعذيب و من إهدار حقوق الإنسان.. فكانت النتيجة هي إعادة القبض عليّ لثلاث مرات كان آخرها حكم المحكمة العسكرية بسجني لثلاث سنوات.. ولكني دائمًا كنت أشعر بالفخر في كل مرحلة.. وكنت أتمثل القادة العظام من المحامين الذين أنفقوا عمرهم دفاعًا عن الإنسان وحقوقه.. فكنت أستحضر روح المتجرد الراحل النبيل "نبيل الهلالي".. والمحامي الفريد "فريد عبد الكريم".. والصخرة التي لا تلين "عبد العزيز الشوربجي"، رحم الله الجميع، وكنت أستحضر الدكتور العلامة "عبد الله رشوان".. أدام الله عليه الصحة والعافية... وغيرهم كثيرون حتى يصل بك المستقر في مدرسة نقيب النقباء أحمد الخواجة وكل هؤلاء تعرضوا للابتلاء بسبب دفاعهم عن حقوق الإنسان بل إنهم كانوا يدافعون عن التيارات الإسلامية بفصائلها كافة إيمانًا منهم بحق الإنسان في المعاملة الكريمة ودون أن ينتظروا منهم أبيض ولا أسود من القروش أو أخضر من الدولارات ولا تجد قضية من القضايا التي اتهم فيها الإخوان المسلمون وأنا بالطبع كنت متهمًا معهم إلا وتجد عشرات المحامين يدافعون عن حق الإخوان المسلمين في المعاملة الكريمة وينفقون من أموالهم وأوقاتهم من أجل المطالبة بحريتهم ومازلت أذكر جهود الأستاذ رجائى عطية ورفعت إبراهيم ميخائيل وفوزى جرجس ويحيى قاسم وكامل مندور وغيرهم عشرات وعشرات يبذلون الجهد من أجل عرض واحد منّا على طبيب المستشفى أو من أجل أن يدخل أحدنا امتحان الماجستير لقد كانوا جميعًا من النبل بحيث تعلمنا منهم كيف يكون البذل من أجل حقوق الإنسان بل إن زيارات الأستاذ رجاء عطية لنا في السجون فاقت في عددها زيارات أكثر الناس قربًا وولاءً. .. إلى أن أتت الديكتاتورية الثالثة والتي نعيش بين شوكها الآن.. فإذا الذين كانوا بين الأقفاص يعانون من انتهاك حقوق الإنسان يأتي منهم من ينتهك حقوق الإنسان فإذا ما نبهناه إلى التعذيب قام بفعل ما كان يفعله غيره فيستنكر علينا ذلك ويغض الطرف عن الحق والحقيقة وفى يوم الإثنين الموافق 27 من مايو وفى تمام الساعة العاشرة كانت بداية الصراع بيني وبين الدكتاتورية الثالثة فتم التحقيق معي بمكتب النائب العام حول ما صرحت به في بعض القنوات الفضائية من أن تعذيبًا يجرى على أرض مصر يمس أطفالها وفتياتها وشيوخها وأن سجن العقرب قد عاد من جديد بكل ما يحمله من قسوة ومن تلوث وأن المتهمين في جمعة التطهير قد كان منهم نسبة كبيرة هم أقل من عشرين عامًا وكان منهم نسبة أخرى أقل من خمسة عشر عامًا وما كان لهؤلاء الصغار أن يحبسوا في الأقسام أو يضربوا أو يتعرضوا للتعذيب ولم يكن من الضباط من يشفق لحالهم. إلا أن أحد الضباط المصريين أشفق لحال أحد المقبوض عليهم وكان مصدر شفقته هو خوفه من السفارة الأمريكية وليس خوفه من الله فقام بإثبات التعذيب الذي وقع على المواطن الأمريكي الوحيد الذي كان من بين المقبوض عليهم واسمه "أندرو" أما بقية المصريين سواء من الأطفال أو من الشيوخ فقد نالهم من البطش ما نالهم.. المهم أيها السادة الكرام أننى حينما تلقيت مكالمة من السيد الفاضل المحامى العام قمت من نومي منشدًا "حي على الجهاد" وظللت أتغنى بنشيد "والله زمان يا سلاحي" فلطالما أرعب هذا السلاح الرئيس حسنى مبارك وقد لاحقته به في الاستجوابات التي قدمتها في البرلمان المصري عام 87 وطعنته به في المظاهرات التي قدمتها نقابة المحامين تأبينًا للمرحوم عبد الحارث مدني الذي قتلته سجون مبارك وواجهته به يوم أن أجبرت على حضور له فلم أقف ولم أصفق له ولم أؤيده ما حييت. "والله زمان يا سلاحي" عبارة أفتخر بها فالجبابرة والطغاة لا يخافون إلا من سلاح الكلمة ومن اللسان الحر الذي لا يشتريه منصب ولا يبيع الآراء والمبادئ في سوق الهوان تحت أقدام الحكام وكان العزاء وأنا أمام المحقق أنى أمثل الحبة الأخيرة في مسبحة الذين حقق معهم أمام النائب العام بسبب الرأي أو الفكر مهما كانت الاختلافات بيننا وتعجبت أن كل ما أواجه به هو مقال للأستاذ جمال سلطان نقل فيه بعض عباراتي عن التعذيب وأشفقت على أبناء قومي فحينما يكتبون يحاسبون وعندما يصمتون يستعبدون فأي الطريقين أكثر عزة؟! أما ما أسعدني في هذا الصراع الجميل فهو اهتمام المحامى العام الذي كان يجري التحقيق بما قدمت من مستندات تفيد وتثبت وجود التعذيب في سجون وأقسام مصر وتعطشه إلى الاستماع لمزيد من الشهود والأدلة كما أسعدني حماس مستشار مساعد النائب العام وحرصه على ألا يكون على أرض مصر شيء من التعذيب أو العذاب أو المعذبين وإننى أقول له إنها منظومة كبيرة يا سيدي ولن تنتهي إلا إذا علم الناس والحكام قول رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن الله يعذب الذين يعذبون الناس".