كنت محاميًا بينما كان المستشار/ رجائي العربي هو المحامي العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا... وكان مقرها في شارع سوق التوفيقية... وكان الرجل يتميز بأنه شديد الاعتزاز بمن يعمل معه وبالشرطي الذي يحرس مكتبه والسكرتيرة التي تدير له أموره... فإذا ما انتقل إلى منصب النائب العام اصطحبهم جميعًا معه... وكنت أذهب إليه في الصباح الباكر وقبل أن يدخل مكتبه أو يأتي إلى المبنى فأجد القرآن الكريم يملأ أرجاء المكان... فقد كانت أهم عاداته ألا يدخل إلى المكتب قبل أن يملأ القرآن أرجاء المكان... وقد كانت لي معه عشرات المواقف الجميلة والممتعة فهو كما يقولون ابن ناس فعلًا... ورغم كل شيء ورغم أي شيء فلم يكن نائبًا عامًا بالمعني القانوني بل كانت قراراته تتمشي مع ما يطلبه نظام الحكم خطوة بخطوة... وبالرغم من هيبة شخصيته ورجاحة عقله فلم يكن يحظى بالإعجاب المطلوب من الصفوة ومن رجال القانون أو المدافعين عن حقوق الإنسان... وأذكر إنني حضرت التحقيق مع المتهم نبيل المغربي في عام 1980 تقريبًا وكانت ملابسه أي ملابس نبيل المغربي مبلولة بالدماء الذي انهمر منه بسبب تعذيبه... ونبيل المغربي لمن لا يعرفه هو أقدم سجين سياسي في مصر والذي ظل حبيسًا لما يقرب من ثلاثين عامًا... وقد تم اتهامه وحبسه على ذمة قضايا عديدة كان منها أن أتهم بقيادة تنظيم وهو في داخل محبسه وقبل أن أبدأ مرافعتي عن نبيل المغربي... همس لي المحامي العام أن أطلب من زوجته ملابس خالية من الدماء... أي نظيفة حسب تعبيره... وكانت زوجته المناضلة تجلس خارج غرفة التحقيق... وتعجبت في ذلك الوقت أن المحامي العام الأول لنيابات أمن الدولة العليا لا يهتم كثيرًا بالملابس المبللة بالدماء والتحقيق فيما تم من تعذيب للمتهم بينما يهتم بحالة المتهم ومظهره... لكني فهمت الأمر بعد ذلك فلم يكن بمقدور المحامي العام الأول لنيابة أمن الدولة العليا سلطة أن يحقق مع متهم أو أن يفرج عن متهم أو أن يحقق في جريمة تعذيبه أو يحاكم ضابطًا متهمًا بتعذيبه... ومن هنا فهمت الآلية التي تنظم نيابة أمن الدولة العليا... وكما أن أقرب الضباط إلى المناصب العليا هم ضباط مباحث أمن الدولة وذلك لعمق الثقة فيهم فإنه أقرب أعضاء النيابة إلى منصب النائب العام لابد وأن يكون من خريجي نيابة أمن الدولة العليا من أجل ذلك نظرت إلى المحامي العام رجائي العربي وقلت في نفسي "هذا هو النائب العام القادم"... ولم أتعجب بعد ذلك من التصرف أبدًا فالذي يجب أن يعرفه القارئ أن كل من اعتلى مناصب في دولة مبارك كان قد تم اختيارهم منذ نعومة أظفارهم وتم تدريبهم على الواجبات المطلوبة وعلى طريقة التصرف... وفي الوقت الذي كانت هذه العناصر التي يتم اختيارها من الكفاءات العلمية النادرة فقد كانت أيضًا من الخاضعين لبريق النظام والسلطة... وللتدليل على ذلك يجب أن تعلم أيها القارئ أن التحقيقات التي تمت في قضية الفنية العسكرية في عام 1974 والتي قامت فيها مجموعة من الشباب باقتحام مبنى الفنية العسكرية ومحاولة قلب نظام الحكم بالقوة... في عصر الرئيس السادات وتم قتل عدد كبير من الضباط والجنود وكان من أبطال هذه القصة المرحوم صالح سرية والمرحوم كارم الأناضولي والمرحوم طلال الأنصاري.. وقد وافقت فيها النيابة العامة على التعذيب للوقوف على أسماء وعناصر التنظيم الذي كانت تجهله وزارة الداخلية في ذلك الوقت... حتى بعد أن أبلغ أحد أعضاء التنظيم عن بقية الأعضاء قبل أن يقتحموا الفنية العسكرية وذهب إلى الرئيس الراحل السادات في بيته ليبلغه بالأمر... لم تصدق المخابرات العامة ولا مباحث أمن الدولة هذا المبلغ... الخلاصة أن النيابة العامة التي كانت تباشر التحقيق وتشاهد آثار التعذيب فلا تحرك ساكنًا كان من بينها مثلًا المستشار/ عدلي حسين الذي تحول من عام 1974 وحتى عام 1984 إلى أهم شخصية قضائية في مصر ثم إلى مستشار كبير لمجلس الشعب ثم محافظ للمنوفية ثم محافظ لغيرها ولغيرها وكان منهم المستشار/ صهيب حافظ وكان بدرجة وكيل نيابة في ذلك الوقت والذي تم قتل ابنه عن طريق الخطأ بواسطة حرس الرئيس السابق حسني مبارك... وكان من أعضاء النيابة شاب اسمه "ماهر الجندي" والذي أصبح علامة من علامات مصر كمستشار ثم كمحافظ ثم كسجين في عهد مبارك بعد أن غدر به الرئيس المخلوع رغم طاعة ماهر الجندي له في كل الأمور... وكان من هؤلاء أيضًا وكيل النيابة "رجائي العربي" والذي تطور به الأمر حتى أصبح النائب العام لسنوات طويلة... ومن هنا يستطيع القارئ أن يفهم المفتاح الذي يتم بمقتضاه الاستيلاء على مقعد النائب العام وكيف يتم استخدام هذا المقعد القضائي لصالح أنظمة بعينها... كيف سار الدكتور مرسي على نفس خطوات الرؤساء السابقين وإلى أن نصل إلى تفصيلات ما قام به النائب العام الأخير طلعت عبد الله علينا أن نكمل العديد من مواقف النائب العام رجائي العربي ثم النائب العام عبد المجيد محمود لنعلم أنها تتطابق تمامًا- القدم بالقدم والجحر بالجحر والتوقيع بالتوقيع والحبس بالحبس... وإلى اللقاء في الحلقة الثانية من هذه السلسلة التي ربما تنتهي بكلابش... وربنا يستر. وعجبى [email protected]