من صفات الفراعين في كل زمان التأله الذي يظهر في صور ومظاهر شتى، حيث يرون أنهم فوق البشر، وأن جميع الناس عبيد وهم أسيادهم، وهذا ما صرح به فرعون المتأله، الذي ادعى الربوبيةَ والإلهية معًا - كما حكي القرآن عنه-: ﴿أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ [النازعات: 24]، و﴿مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي﴾ [القصص: 38]، وقد صار على نهج التأله أتباعٌ كثيرون في كل عصر؛ فها هو فرعون قريش يخرج بطَرًا ورئاءَ الناس، يحادُّ اللهَ ورسوله، ويحاد الذين آمنوا: ﴿ كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ ﴾ [الأنفال: 47]، فكان الهلاك لهذا الطاغية على يدِ عبدٍ من عِباد الله الموحِّدين، وقد أذله اللهُ كما أذلَّ غيرَه بنفس الصورة التي يُهلِكُ اللهُ بها الفراعين، وكأنها صورةٌ صوِّرت وحمضت منذ فرعون الأول، مرورًا بأبي جهل، حتى وصل الإذلالُ والهوان إلى كلِّ مَن تكبَّر ونسي أصله وتكوينه، وها هي المشاهد تتكرر عندما يركع مَلِك ملوك إفريقيا القذَّافي؛ ليطلب الحياةَ من قاتليه الذين لا يملِكون لأنفسهم نفعًا ولا ضرًّا. وظهر فرعون آخر في سوريا بمعاونة أمريكا الطاغوت، التي ستتحطم بإذن الله، ومعهم الصهاينة الغادرون، خرج هذا النكرة ليطلب جندُه من الناس أن يسجدوا لصورته، بل ويرضى بأن يحرف كلمة التوحيد، بإرغام الناس تحت شدة التعذيب والتنكيل وانتهاك الأعراض أن يقال: "لا إله إلا بشار"، كبُرت كلمةً تخرج من أفواههم، إن يقولون إلا كَذِبًا، والله إن السماءَ والأرض والجبال والكون كله ليَغارُ على هذه الكلمة مِن أن تحرَّفَ، أو أن يُتَّخذ مع الله نِدٌّ؛ ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا ﴾ [مريم: 88 - 95]. رسالة إلى مَن بَغى عليهم الفراعين: قد يتزلزل الناسُ حتى تصل القلوب إلى الحناجر، بل ويظنُّون بالله الظنون، بل ويظنُّون بالله ظن الجاهلية، حتى يقول الناس: لماذا مكَّن اللهُ لهؤلاء الفراعنة؟ ولماذا أُسلِمَت رقابُ عباد الله لهم؟ تظل هذه الأسئلةُ حائرةً في صدور كثير من الناس، بل وفي صدور الموحِّدين، وربما يصل الأمر إلى الاستسلام. نقول لمن تتخالج نفسه بهذه الهواتف المريضة المثبطة: مهلًا مهلًا؛ فقد عصفت الأحداث بالمؤمنين في مواطنَ كثيرةٍ، وأحاط بهم الكافرون من كل مكان: ﴿ إِذْ جَاؤُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ﴾ [الأحزاب: 10، 11]. ولكن سرعان ما تذكَّر المؤمنون - بما معهم من رصيد إيماني - أن الدائرةَ لهم، وأن نصر الله قريب ﴿ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]، وأن هذا النصرَ يكون بعد البأساء والضراء: ﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾ [البقرة: 214]. سرعان ما رُدَّتِ القلوبُ التي وصلت للحناجر إلى وضعها الطبيعي؛ لترسم لنا صور الإيمان في مواجهة الأعداء: ﴿ وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 22]، بذَلوا وصمدوا؛ لأنهم يعلمون أن الدماءَ التي تسيل منهم لها ثمنٌ غالٍ عند الله، وأن فترة الإمهال لحكمة، وأن تداوُلَ الأيام بين الصعود والهبوط سنَّةٌ كونية: ﴿ إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ﴾ [آل عمران: 140]، وسنَّة التداول هذه ليمحص اللهُ الصفَّ، ويتخذَ الشهداء: ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [آل عمران: 140، 141].، ومن على شاكلتهم، صبرًا صبرًا؛ فإن نصرَ الله قريب. وصبرًا صبرًا أيها المتجبرون؛ فإنَّ أخْذَ الله شديد؛ ﴿ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102]. ولا يحسبن الفراعين أن اللهَ غافلٌ عما يعملون، إنما يؤخرهم ويمهلهم، حتى إذا أكثروا الفساد، صبَّ عليهم العذاب، وهذه سنة كونية لا يُلتَفتُ إليها، وهي أن العذابَ الأليم المهين لا ينزل إلا إذا أكثر أهلُ الظُّلم والطغيان من الظلم والفساد؛ قال - تعالى -: ﴿ فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ * فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ ﴾ [الفجر: 12 - 14].