هدف الاحتلال الإنجليزى فى مصر إلغاء القضاء الشرعى تمامًا وتحويل مصر إلى النظام القانونى الفرنسى، حيث إنه فى بواكير عهد إسماعيل قد صدر الأمر العالى الخديوى بتعريب مجموعة القوانين الفرنسية، وترجمت فعلاً وطبعت ما بين عامى 1866 و1868، حيث استدعى إسماعيل من فرنسا عام 1865 مهندسًا فرنسيًا يدعى (فيكتور فيدال)، وذلك ليكلفه بإعداد لائحة تأسيسية وقانون للإجراءات الجنائية ثم أنشأ كلية للحقوق بالمعنى الكامل، وإن أخفى معناها تحت اسم لم يكن لمنهاجها منه نصيب وهو "مدرسة الإدارة والألسن"، فكانت مدرسة لدراسة القوانين الغربية لأول مرة فى بلد الأزهر، وكان هذا استنباتًا للفكر القانونى الغربى فى البيئة المصرية. ومن سنة ( 1883 م ) إلى سنة ( 1949 م ) أى قرابة سبعين عامًا، كان التقنين محض تقليد للقانون الفرنسى "فجمع بين عيوب التقليد وعيوب الأصل الذى قلده". حتى كان قانون 1949 م الذى هو نسخة شائهة من القانون المدنى القديم، مع بعض التعديلات الطفيفة، لكنه كان غربيًا بامتياز. ومما ينبغى الإشارة إليه أنه فى عام 1889م، أى بعد صدور القانون المدنى بستة أعوام، أراد الاحتلال الإنجليزى أن يلغى المحاكم الشرعية ففكر مستشار الحقانية الإنجليزى فى إلغائها وضمها إلى المحاكم الأهلية، ولكن حسبوا حسابًَا لهياج الرأى العام، فأرادوا أن يفعلوا ذلك تدريجيًا، وذلك بتعيين مستشارين من محكمة الاستئناف وعضوين فى المحكمة الشرعية العليا، فلم يرض بذلك جمال الدين أفندى قاضى مصر التركى، ولا الشيخ حسونة النواوى شيخ الأزهر ومفتى الديار المصرية. وعرض المشروع على مجلس شورى القوانين فرفضه، ووقف الشيخ حسونة موقفا شديدا صلبا انتهى بتركه المنصبين، ووقف المشروع.. ومن عجائب الأمور أن القضاء الشرعى الذى فشل الاحتلال على مر التاريخ أن يلغيه، فإن الرئيس جمال عبد الناصر هو الذى تجرأ على هذا الأمر من خلال تمثيلية رخيصة قام بها، حيث لفق إلى أحد القضاة الشرعيين تهمة جنسية من خلال إحدى الساقطات وظلت وسائل الإعلام وقتها تثير الرأى العام، وبعد شهر من عرض الأمر على صفحات الجرائد خرج الفرمان المطلوب بإلغاء القضاء الشرعي، والذى لم يجرؤ أى محتل أن يتعرض له لكن جمال عبد الناصر فعلها!! وكان رد فعل الشيخ الجليل محمد الخضر حسين شيخ الأزهر حينها، أن تقدم باستقالته احتجاجًا على هذه المصيبة التى حلت بالمسلمين، وهذه إحدى كوارث عبد الناصر التى تضاف إلى سجل كوارثه. والآن ونحن فى ظل حكم رئيس إسلامى أرى أن اللبنة الأولى لتطبيق الشريعة الإسلامية التى يبتغى تطبيقها المسلمون – باعتبارهم مسلمين - تبدأ بإرجاع القضاء الشرعى وعودته إلى حيز التطبيق العملي.. وهو ما يجب على المسئولين أن ينتبهوا إليه الآن ويسعوا إليه سعيًا جادًا.