قال لي صديق وهو يضرب كفا بكف ً تصور أنه قاطعني بعد طول ود واحترام.. فلما استوقفته وسألته - مالك يا بني لا تلقي علي السلام ولا ترده علي ّ عندما القيه. نظر إلي شذرا وقال: لأنك مسبل إزارك قلت له: بغض النظر عن القول في الإسبال إباحة أو كراهة أو حتى حرمة.. ماذا إذن ستفعل إزاء الكفار والمرتدين أو حتى أصحاب الكبائر من اللصوص والزناة والقتلة. قال: كلهم عصاة . فلما وجدني انظر إليه مشدوها هز كتفيه ثم انصرف. أثارت هذه الواقعة في نفسي الحديث عن آفة أخرى من تلك الآفات التي تمزق مجتمعنا.. ومنهم أبناء الحركة الإسلامية.. وهي غياب الألوان الرمادية بدرجاتها المختلفة من الألوان والاقتصار على الأبيض والأسود منها فقط. لقد أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بقتل النضر بن حارث وعقبة بن أبي معيط بعد أسرهما ببدر رغم اكتسابهما قدراً من الحصانة بهذا الأسر.. بينما نهى أصحابه عن قتل العباس وأبي البختري بن هشام أثناء المعركة.. وكلهم كان كافراً محارباً – هناك خلاف حول موعد إسلام العباس – بل أنه (صلى الله عليه وسلم) قال: " لو أن المطعم بن عدي كان حيا ً – وكان قد مات كافراً –وسألني هؤلاء الفتنى – يعني أسرى بدر – لوهبتهم له" . كافر أمر بقتله حتى بعد الأسر.. وكافر نهي عن قتله أثناء المعركة وكافر هم أن يعطيه ثمرة انتصاره. وفي فتح مكة أهدر (صلي الله عليه وسلم) دماء عشرة قرشيين وأمر بقتلهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة.. قتل منهم رجلان واسلم الباقون.. بينما أرسل عمامته في اثر عكرمة بن أبي جهل – أماناً له ليعود إلى مكة حتى دون أن يشترط إسلامه.. رغم أنه أحد أولئك الذين قاتلوه ليمنعوه من دخول مكة وكذا مع العصاة. لقد أمر ( صلى الله عليه وسلم) بصلب وقطع أيدي وأرجل العرنيين بل وسمل أعينهم لما ارتكبوه من جرم الحرابة. بينما قال لعاص آخر لما جاءه معترفاً: " أصليت معنا" قال: نعم قال: " اذهب فإن الحسنات يذهبن السيئات" وكذا في الآخرة.. هناك من يعذب في الدرك الأسفل من النار: " إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً" ومنهم من وصف بأنه من أشد الناس عذاباً.. بينما هناك آخرون عذابهم في ضحضاح من النار تغلي منها دماغه.. وقد نفعه الله تعالى بشفاعة النبي (صلى الله عليه وسلم) وكلهم كافر مخلد في النار ولكنها دركات تتدرج على قدر ما يرتكب أحدهم من جرم إلى جانب كفره. وكذا في الجنة هناك من هو في القمة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين. وهناك أصحاب الأعراف يقفون بين الجنة والنار في انتظار عفو الله سبحانه وتعالى وفضله حتى يؤذن لهم بدخول الجنة. وهكذا يجب أن يتعامل المسلم مع الناس يحبهم ويقترب منهم ويودهم ويواليهم بقدر اقترابهم من الدين .. أو يعاديهم ويكرههم وينفر منهم بقدر ابتعادهم منه.. ناظرا ً لأعمالهم وجهدهم في خدمة الدين أو عدائه. لقد كان من أصحاب النبي (صلى الله عليه وسلم) الصديق والفاروق وذو النورين يحبهم ويستشيرهم ولا يكاد يفارقهم. وكان فيهم من قال فيه بئس أخو العشيرة ومن أمره أن يغيب وجهه عنه فلا يراه. خلاصة ما أريد أن أقوله أن الموالاة والمعاداة لها مدرج أو سلم – كما يقول أحد أخواننا في رسالة ألفها بهذا المعنى – يوضع عليه الناس بقدر أعمالهم وإيمانهم. وينبغي أن يكون الحب والاقتراب أو البعد والهجران بقدر المكانة على هذا المدرج. ولا يوجد بين الناس أسود بهيم.. وأبيض ناصع.. وإنما الألوان بينهما تتدرج قتامة أو القا بقدر إعراضه أن إقباله على الله عز وجل. وينبغي أن ننظر إلى الناس بهذا المنظار.. ونضع أيدينا في أيديهم ليزداد التألق والصعود فكلنا خطاءون وكلنا مقصرون, نذنب ونعمل الخير ومن كانت حسناته أكثر من سيئاته فهو العدل المقبول كما قال الإمام الشافعي. أما الهجر فالأصل فيه الحرمة.. وإنما يباح أحيانا ً في أحوال قليلة نادرة لتحقيق مصلحة لا تتحقق إلا به .. يقدرها أهل العلم وتكون لضرورة تقدر بقدرها وتزول بزوالها أو بذهاب المصلحة المرجوة منها أو بثبوت عدم جدواها في تحقيق تلك المصلحة. إن لله يوم القيامة ميزانا ً يزن الناس – حسناتهم وسيئاتهم – فمن غلبت حسناته السيئات دخل الجنة .. ومن كانت عليه الأخرى دخل النار كيف ولا حساب نملكه ولا عقاب. وما يدريك لعل الله قد غفر للعاصي بسجدة سجدها أو دمعة أراقها أو درهم وضعه في كف مسكين ولن يدخل أحد الجنة بعمله إلا أن يتغمدنا الله برحمته.