أستاذ التعليم العالى بالجامعة الحرة بأمستردام لا غرابة أن الإسلام قد أقر مبدأ التعددية وحرية الاختلاف, ولا غرابة أن ذلك سنة من سنن الله في الكون والحياة, بل الغرابة حقًا وعقلًا ومنطقًا وشرعًا أن يضيق إنسان العصر ذرعًا بهذه التعددية والتنوع. إن عالم اليوم يتجه بسرعة هائلة باتجاه التعددية, والدافع لذالك هو ازدياد الاتصالات والتعامل بين الناس بمختلف أديانهم وعقائدهم, وانتماءاتهم ,وثقافتهم, ولغاتهم, وأصولهم الإثنية والعرقية. عندما يراجع المرء القرآن الكريم, سيجد من آيات القرآن الكريم ما يشرع التعددية الدينية, إذ يقول الباري جل شأنه "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجًا, ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة، ولكن ليبلوكم فيما أتاكم, فاستبقوا الخيرات, إلى الله مرجعكم جميعًا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون". هذه الآية الكريمة واضحة المعنى والدلالة, وتؤكد مما لا يدع مجالًا للشك التوجه الإسلامي الذي يقبل التعددية الدينية, وبأنه لو أراد لجعل الناس كلهم أمة واحدة, والقصد من ذالك إغناء الناس بعضهم البعض في التجارب والخبرات والأفكار ولمساعدتهم في تطوير حياتهم وتنمية مجتمعاتهم، ولأن الهدف الأسمى من الدين هو خلق الشخصية الإنسانية الصالحة والخادمة لمجتمعاتها. إنه مما لا شك فيه أن الإسلام قد اعترف ومارس التعددية بكل أنواعها خاصة التعددية الدينية, فالقرآن الكريم يؤكد بأن الله خلق النفس البشرية من نفس واحدة, وأن جميع هؤلاء الناس يرجعون ويردون إلى أصل ومنبع واحد, وأنهم جميعًا يعمرون الأرض, القرآن يؤكد بأنه "لا إكراه في الدين"، وأن الله كرم بني آدم جميعًا، وأقر بمجادلة أهل الكتاب بالتي هي أحسن والعالم أجمع بقوله تعالى "وقولوا للناس حسنًا"، وليس هذا فحسب، بل نجد القرآن الكريم يؤكد التعدد الإثني والعرقي والثقافي واللغوي قائلًا:"ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم, إن في ذالك لآيات لقوم يعقلون"، وفي سورة الحجرات يقول جل وعلا: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا, إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير". من خلال هذه الآيات نستنتج اعتراف القران الكريم بشرعية التعددية والتنوع على المستويات الدينية والثقافية والعرقية واللغوية. إن الإسلام وقف موقفًا متسامحًا اتجاه الآخر في الدين أو اللون أو اللغة أو الثقافة, لأنه دين عالمي ولا يمكن له إلا أن يحتوي الجميع ويتعامل مع الجميع, قال الله تعالى: "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، وقد رسخ الإسلام مفهوم احترام الديانات الأخرى وحدد منهج التعامل معها من خلال القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، ومن خلال القواعد التي على أساسها ينبغي أن يتعامل المسلمون مع الآخر المختلف عنهم في الدين والعقيدة والثقافة واللغة, وهو ما يجب على المسلمين اتباعه من تعاليم الإسلام القائمة على الوحي الإلهي والسنة المحمدية الشريفة وسيرته العطرة في نظرتهم إلى الغير والآخر. إن موقف الإسلام من البداية اتضح واتسم بالشمول والوضوح والصراحة, فقد حدد وبدقة فائقة الموقف من الآخر ومن التعددية وأعلن واضحًا عدم إجبار الناس على الدخول في الإسلام "لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"، وقال أيضًا: "فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر". إن محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه, سار على هذا النهج, فقد منع رجلًا أراد أن يرغم ولديه على الإسلام كما يذكر المؤرخون وأصحاب السير، كما حث الإسلام على اتباع أسلوب اللين والرفق والحوار الهادئ البناء والمجادلة بالتي هي أحسن وأفضل من خلال استخدام المنطق والعقل لإقناع الآخر, قال الله تعالى مصدقًا لذلك: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن". لقد أظهر الإسلام التسامح تجاه التعددية بكل أشكالها منذ الوهلة الأولى للإسلام, وثبت دعائمها قولًا وفعلًا وتطبيقًا وممارسة, وذلك يتجلى في عهود الأمان التي أعطيت للآخر في بلاد الإسلام أو في البلاد المفتوحة, وكان عهد الأمان الذي أعطاه رسول الله، صلى الله عليه، لأهل نجران, أمنهم من خلال ذلك العهد على النواحي الدينية والاجتماعية والسياسية هو المثل الذي عقدت على منواله عهود الأمان اللاحقة والمتتالية على امتداد التاريخ الإسلامي والإنساني على السواء, ليصبح مضربًا ومثلًا للأجيال السابقة واللاحقة في التكيف مع الآخر عقيدة ومنهاجًا وسلوكًا، وصحيفة المدينة التي تعد الدستور للدولة الإسلامية. إن من يقرأ هذه الصحيفة يلاحظ أنها كتبت بلغة العقود المدنية بين الأطراف الموقعة عليها والملتزمة بما ورد في الوثيقة بخصوص التعددية والتنوع والحقوق والحريات, وما اشتملت عليه من بنود تخص التعايش السلمي والتعاون ووحدة المصير والهدف إعلان الرسول، صلى الله عليه وسلم، ميلاد الأمة في نواتها الأولى، كما أتت وتوالت عدة وثائق بعد الرسول، صلى الله عليه وسلم، تخص التعددية والتنوع وحق الاختلاف من بينها وثيقة سيدنا أبي بكر, ووثيقة سيدنا عمر بن الخطاب، وعهد سيدنا الإمام علي، رضي الله عنه، لمالك الأشتر, ورسالة الحقوق للإمام علي أيضًا مشتملة ومحتوية على خمسين حقًا, وضح من خلالها الحقوق السياسية والاقتصادية والدينية والاجتماعية, وكل هذه الوثائق لتنظيم التعددية وحل المشاكل الاجتماعية وتنظيم الأمور الحياتية للمسلمين وللآخر أيضًا. إنها أصول راسخة رسوخ الإسلام وقدمه, وضعها سيدنا محمد بن عبد الله الأكرم والمستمدة من الوحي الإلهي, وظلت هي المنهج القويم الذي سار عليه المسلمون ومن أتى من بعدهم جيلًا بعد جيل لا يكلون ولا يملون في ترديد هذه الأصول ووجوب الحفاظ عليها تطبيقًا للوحي الإلهي وامتثالًا لسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم. في تراثنا الإسلامي جوانب مضيئة ونماذج ناصعة وتجارب عميقة –قل إن يوجد مثلها عبر التاريخ الإنساني –فيما يخص "التعددية والتنوع "وأنصع مثال على ذلك دستور المدينة أو صحيفة المدينة "والاتفاقات التي عقدها الرسول الأعظم محمد بن عبد الله، وهي تعد من الوثائق الدستورية النوعية في التاريخ الإنساني, وهكذا كان التسامح سمة الإسلام والمسلمين أينما حلوا وارتحلوا يحملون معهم قيم التنوع والتعدد وقيم الجمال والتعايش, هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ومن جاورهم أو عاش أو تعامل معهم.