تعدّ الحسبة نظامًا إسلاميًا فريدًا؛ بل تعدّ من خصائص النظام الإسلامي، فلم تعرف الأنظمة مثيلًا له، ونظام الحسبة ينطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ بل هو تجسيد له، ولذلك يعرفه ابن خلدون بأنها: وظيفة دينيّة من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمر المسلمين. وفي الحديث عن المهام والمسئوليات التي كانت تُلْقَى على عاتق المحتَسِبِ في المجتمع الإسلامي، يقول أحد الباحثين المعاصرين: إن البلديات قد تُرَاقِبُ في عصرنا الحاضر القصَّابين، والخبازين، والمطاعم، وقد تُشَارِكُها مديرية الصحَّة هذه الرقابة، ولكنَّنَا لا نعرف للبلديات أثرًا في مراقبة الأسواق التجارية التي تباع فيها المنسوجات، والمصنوعات، والحاصلات المختلفة، أمَّا أصحاب المهن الحُرَّة؛ كالأطباء، والمحامين، والصيادلة، والمهندسين، والمعلمين، فليس للبلدية أن تنظر في شيء من أمورهم؛ ولذلك نستطيع أن نُقَرِّرَ متثبِّتِينَ أن اختصاصات المحتَسِبِ أوسع كثيرًا من اختصاصات المحافظ، أو رئيس البلدية. وقد اهتم الخلفاء المسلمون بهذه الوظيفة، وكذلك العلماء فهذا ضياء الدين بن الأخوة يذكر جملة من مهام المحتسب مما يدل على رقي حضارتنا الإسلامية، يقول: "ينبغي أن يأمرهم المحتسب برفع سقائف أفرانهم، ويجعل في سقوفها منافس واسعةً للدُّخان، ويأمرهم بكنس بيت النَّار في كلِّ تعميرةٍ... وغسل المعاجن، وتنظيفها، ويتَّخذ لها أبراشًا، كلُّ برشٍ عليه عودان مصلَّبان لكلِّ معجنةٍ، ولا يعجن العجَّان بقدميه، ولا بركبتيه، ولا بمرفقيه؛ لأنَّ في ذلك مهانةً للطَّعام، وربَّما قُطِّر في العجين شيءٌ من عرق إبطيه، أو بدنه، ولا يعجن إلاَّ وعليه مِلْعَبةٌ ضيِّقة الكمَّين، ويكون مُلثَّمًا أيضًا؛ لأنَّه ربَّما عطس، أو تكلَّم فقطر شيءٌ من بصاقه، أو مخاطه في العجين، ويشدُّ على جبينه عصابةً بيضاء لئلاَّ يعرق فيقطر منه شيءٌ، ويحلق شعر ذراعيه لئلاَّ يسقط منه شيءٌ في العجين، وإذا عجن في النَّهار فليكن عنده إنسانٌ على يده مذبَّةٌ يطرد عنه الذُّباب". إن اهتمام الحضارة الإسلامية بتشديد الرقابة على كل مهنة ينتج عنها نفعٌ عامٌّ منذ فترة مبكرة جدًّا، يؤكد لدينا أن غاية هذه الحضارة، تتمثَّل في المحافظة على الإنسان، وتوفير جميع السبل لراحته ولإسعاده، وهذه القواعد الصارمة التي يُنَبِّه ابن الإخوة عليها، باتت -للأسف الشديد- مفتقَدَة في كثير من الخدمات والمنافع العامة في بلداننا الإسلامية في واقعنا المعيش، بل أصبحنا نستورد فنون النظافة و"الإتيكيت" من الأوربيين والغربيين، ونسينا أو جهلنا أن الحضارة الإسلامية قد نبَّهت على ضرورة وجود المعايير الأمنية للمحافظة على صحة المسلم، من خلال وجود مراقبين (محتسبين) يُنفِّذون تلك القواعد بطرق مشدَّدة، والحق أن كتاب "معالم القربة في طلب الحسبة" ليُعد من قبيل موسوعة رقابية مهمة جدًّا، وجب التنبه لها، والرجوع إليها؛ لأنها تصلح لكثير من الأقطار والعصور. لا ريب أن نظام الحسبة في الإسلام هو ذروة ما يمكن أن يفكِّر فيه الحكم الحصيف؛ للحرص على راحة الناس وأَمْنِهِم ودِعَتِهم، والحفاظ على رفاهيتهم، وتجنيبهم كل أسباب القلق والضيق، وحماية المجتمع أدبيًّا ومعنويًّا ومادِّيًّا، حمايةً مبسوطة كل البسط، غير محدودة بحدود، ولا مُقَيَّدة بقيود، إلاَّ حدود الأمن وقيود الذوق، ولا نكاد نجد حَكَمًا معاصرًا في أية دولة معاصرة يستعمل مثل هذا الأسلوب من أساليب حماية المواطنين في نطاق وظيفة بِعَيْنِهَا، مثل وظيفة الحسبة وصاحبها المحتسب. هذا عن ماضينا الجميل الذي كانت تمثله وظيفة المحتسب، أما حاضرنا فسوف نتحدث عنه في مقال قادم.