ظهور القاعدة في تركيا وما ينذر به من عنف أمر يثير القلق، لا بالمفهوم العاطفي وإنما بالمفهوم الاستراتيجي. تركيا التي نجح مجتمعها في إيجاد علاقة بين مؤسسة الجيش وبين الإسلاميين على نحو مغاير لما عرفته المجتمعات العربية، والتي سمحت علمانيتها الصارمة بما لم تسمح به العلمانيات العربية، والتي يزدهر في مجتمعها التصوف الذي يحيد عن الصدام ويجنح إلى المرونة مع السياسيين، هذه البيئة من غير الطبيعي أن تكون منبتاً لآيديولوجية القاعدة بمنطلقاتها ومقاصدها، أو بيتاً زجاجياً تنقل إليه هذه الآيديولوجية من مكان آخر. أمر آخر، وهو أن ما تنادي إليه القاعدة من وقفة في وجه الصلف الإسرائيلي، ورفض للاحتلال الأمريكي للعراق، وكرامة للزعماء السياسيين، واستقلال للإرادة، هي أمور فعلتها وتفعلها حكومة تركيا الحالية، وهي تزداد توغلاً في هذا الاتجاه باضطراد، مع الأخذ في الاعتبار أن ليس كل ما ترغب به هذه الحكومة قادرة على تحقيقه، وليس كل ما تقدر على تحقيقه هو من الحكمة بمكان الإقدام عليه، وأن ميراثاً سياسياً ثقيل الوطأة عميق الجذور جدير بمتسع زمني للتعافي منه. ما الذي تريد القاعدة إضافته إذا إلى قائمة المبررات التي تشهرها في كل مرة تريد فيها فتح جبهة جديدة؟ لماذا إحراج تركيا وزعزعتها أمنياً الآن؟ لماذا إشغالها بجبهات داخلية جديدة في وقت تسعى فيه لتسوية جبهات استنزفت مواردها البشرية والمالية، والانصراف إلى التنمية والبناء، وفي وقت تعمل على تهدئة جبهات خارجية في محيطها لإعادة تموضعها الإقليمي؟ ظهور القاعدة بمسارها التقليدي الذي يمثل التفلت الأمني بداية له، ليتطور التفلت ويصيب الدولة بالشلل، هذا الظهور يدفع في المثال الأناضولي إلى قلق من نمط خاص: نمط ما يحدث في جنوب الجزيرة العربية، تحديداً اليمن، الدولة المشرفة على عنق البحر الأحمر، التي يهددها هذا المسار بالتمزق، ويهدد الممرات المائية العربية الاستراتيجية، ويضع منطقة المشرق العربي تحت خناق لوجستي، وثرواتها الطبيعية تحت حصار، فلا تصبح قابلة للتصدير إلا بكلف باهضة وثمن بخس. ثم أنه يعرّض الكيانات السياسية الجزيرة العربية إلى التفكك، رغم فسادها، ويجعل فراغها مرتعاً لمشاريع ما قبل الدولة وما قبل المجتمع. هذا السيناريو بتداعياته العميقة بدا سهلاً على التنفيذ، وبإمكانات بدائية، وإعادة إنتاجه في الزمان والمكان هي قضية اختيار. وهو قلق من ظاهرة مصاهرات استراتيجية بين تيارات إسلامية وأخرى نقيضة، ومحطات مرحلية مشتركة. وهو قلق من إجهاض أنموذج لا زال في طور التكوين؛ هو الأنموذج السياسي والاقتصادي والاجتماعي التركي، المعقودة عليه الآمال بأن يكون بذرة الإحياء السياسي في منطقة فتك بها الأنموذج الطائفي وشلها الأنموذج الاستبدادي، وفي النهاية هو قلق إقليمي من زعزعة الدولة التي تبدو مع كل يوم جديد أنها الوتد الأخير في خيمة اشتد بها الريح في يوم عاصف. كل مراقب للمشهد التركي، متابع لفصول محاولة الانقلاب التي خطط له جنرالات لإسقاط الحكومة الحالية، وأساليب إشعال الأجواء الأمنية والسياسية، ومنها الهجوم بالقنابل على مساجد تاريخية في مدينة استانبول لإحداث فوضى يعقبها تدخل العسكر، وافتعال صدام عسكري مع اليونان وتحميل الحكومة فشل الدفاع عن الوطن، كل مراقب يعلم أن الأجواء التركية بحاجة إلى عود ثقاب لكي تلتهب، ويذهب حصاد ثمانية أعوام من الإصلاحات، وتعود تركيا دولة عاجزة كما كانت قبل عقد ونصف، وأن عملية واحدة من عمليات القاعدة، والوهج الحراري الذي ينطلق منها أكبر من عود الثقاب المطلوب بمليون ضعف. من الصعب الجزم بأسباب وتوقيت ظهور القاعدة في تركيا. قد تكون القاعدة "المركزية" هي من حدد الزمان والمكان وقد لا تكون، وقد تكون خطوطاً فيها محلية تتحرك "ببراغماتية"، وتلتقي مع الخصوم في محطات مرحلية، أو تقع تحت نفوذهم كما الحال مع إيران في العراق، ولكن لو أن منحنى الأحداث في اليمن والتقاء مآلاته مع الحوثيين الجعفريين والشيوعيين الجنوبيين، لو أن هذا المنحنى مُدّ إلى تركيا فإنه مآلاته ستلتقي مع من هم على الساحة هناك، ومنهم الشيوعيون الأكراد الانفصاليون، والعلويون، لا سيما في مناطق الجنوب الشرقي التي أعلنت فيها الجهات الأمنية التركية عن اعتقالات القاعدة والمتاخمة للعراق غير المستقر. هذا السيناريو يدنو من الواقع أكثر، ويكون أدعى إلى التنفيذ في حال وجود غير حكومة العدالة والتنمية ذات الجذور الإسلامية والقريبة من مشاعر الأمة على رأس السلطة. لكن ما يسهل الجزم به هو أن هناك مستفيدون من "تركيا منشغلة بنفسها"، ضعيفة اقتصادياً، منعزلة عن محيطها، من دون طموح إقليمي، تتعاقب عليها حكومات ائتلافية عاجزة. في طليعة هؤلاء إسرائيل، التي وجهت لها تركيا الواثقة إقليمياً أكثر من صفعة، كان مردها الحقيقي اكتشافها لنشاط موسادي في شمال العراق. ومن بين المستفيدين خصومها الإقليميين التقليديين الذين يغيظهم حجمها الإقليمي المتنامي، والتئامها الثقافي والاستراتيجي المتسارع مع الجوار، ومعجزتها الاقتصادية التي تتوغل بواسطتها في معايش شعوب المنطقة، فيختلط رغيف الخبز التركي بالرغيف العربي، وهؤلاء تتقدمهم إيران. ومن بين المستفيدين، القوى الكردية الانفصالية التي يزعجها تركيا إقليمية لها نفوذ على أكراد المنطقة بما ينعكس سلباً على المشروع الانفصالي، والقوى العلمانية التي رفضها الشعب وبات متعذراً عليها العودة إلى الحياة السياسية بطريقة الانقلابات التقليدية، ومن بينهم أقليات طائفية تطمح إلى إعادة تعريف مفهوم الدين الرسمي في الدولة وانتزاع مكاسب طائفية، ولا يروق لها وجود حكومة أغلبية مطلقة تقبض على عملية صنع القرار السياسي بعيداً عن الابتزازات السياسية. لا أحد من بين هؤلاء دميعاً يروق له رؤية تركيا بقامة إقليمية كالتي هي عليها، لا بل أن تركيا بهويتها، وإرثها الحضاري، ودورها التاريخي، لا صديق لها يتّحد معها في الجذور والمصير سوانا نحن العرب. أيام تركيا حبلى، والأتراك قلقون على إنجازاتهم، ومن ينقل القلق إلى واقع يخلد في الذاكرة الجمعية لأجيال قادمة، وسوف لن يتأخر المتربصون بالحميمية العربية التركية بحق أو بغير حق من عزو شرارة تنطلق لتشعل فوضى إلى لافتة جاهزة هي القاعدة، وسيوجد من يقول: طُعِنا كياننا السياسي بالأمس على الأرض العربية، ويطعن اليوم على أرضنا. يحدث هذا وجراح الماضي المندملة لتوها لمّا تختفي ندبها بعد، فما أصعب البناء وما أسهل الهدم، وإن الحكمة تقتضي أن تُعلَن الأناضول منطقة خالية من القاعدة ومشتقاتها، فلا يصطاد في الماء العكر من في قلبه مرض. انقلابيو تركيا ليسوا بحاجة إلى أكثر من مسار مضطرب البوصلة، متشعب، ليس له قيادة واحدة، بصمته سهلة على الانتحال. الحاجة حقيقية إلى بيان فكري واستراتيجي يضع شعوب المنطقة خارج دائرة تبعات هذا المسار قبل أن تقع، مع الحيطة من خدمة لافتات تشترك بالعنوان وتختلف في المقاصد، لا تضمر للإسلام والمسلمين غير السوء، وكانت سبباً في ولادة العنف بادئ ذي بدء. لا مناص من الريبة والتشاؤم من ظهور القاعدة في الأناضول، فتركيا هي دولة القانون والمؤسسات الأخيرة في المنطقة، وهي الشجرة الأخيرة التي يراد لجذورها أن تمتد في تربة الجوار الرخوة، ولأغصانها أن تضفي ظلالاً وارفة. إحداث خضة أمنية في تركيا كارثة استراتيجية على رقعة كانت تركيا بالنسبة لها أو الكيانات السياسية التي انحدرت منها ولمرات متكررة عظم العصعص الذي تنبعث منه الحياة السياسية من جديد، وانتشلت المنطقة من مستنقع الطائفية الإقليمية. ولئن كان ذهاب العراق قد أصاب المنطقة العربية بخلل استراتيجي ليس من اليسير علاجه، فإن الإخلال بتركيا الموحدة والقوية سيصيب العالم الإسلامي برمته بخلل تكويني يتعذر التعافي منه. ليس من الشطط الفكري تهويل المشهد الأناضولي، ومقارنته مع مشاهد أخرى، فقد أباح المشهد اليمني الصدع بما كان يعد في التحليل الاستراتيجي تخريفاً أقرب إلى قراءة الفنجان منه إلى الواقع، وفي المشهد التركي اليوم ما تتلعثم من هوله الألسن، مما يشبه قراءة الفنجان وهو إلى الحقيقة أقرب. [email protected] معهد المشرق العربي