تجربة الروائي المصري "رؤوف مسعد"، تعتبر نموذجا فريدا، يمكن من خلالها تعرية ما تدعيه " الحداثة عموما"، من استقامة معاييرها إزاء التقاليد الدينية، باعتبارها احدى تجليات الماضي، الذي يجب تجاوزه و تدميره. فالحداثة، كما يفترض، لا تفاضل دينا على آخر .. تتساوى عندها الوثنية مع التوحيد. فعندما يتمرد رؤوف مسعد على "المسيحية" ويقرر مقاطعة الكنيسة نهائيا رغم كونه ابنا لقسيس بروستانتي ويعتنق "الماركسية"، فهو تحول يتسق مع حداثيته، فالدين كما أسلفنا خارج نطاق الحسابات الحداثية، وهو خروج يدفع بالحداثي، إلى نقطة محايدة تنعدم عندها نزعة المفاضلة بين الأديان، ولا يدخل إليه مدافعا عنه، وانما ل" القذف به من فوق الباخرة" .. على حد تعبير الحداثي الغربي "بورا". غير أن مسعد يتخلى عن هذا "المبدأ الحداثي"، و يكتب روايته " مزاج التماسيح " و هي رواية طائفية ، تتحدث عما اعتبره "مظالم يتعرض لها المواطن القبطي المصري، على يد المسلمين" !! . هذا التزاوج بين (الطائفية والحداثة) ، كان واحدا من العناصر النشطة، التي قوضت الحداثة العربية من داخلها، لا سيما عندما تتسع لتشكل، جبهة طائفية عابرة للحدود، وضد دين بعينه وهو الإسلام، والمثير أن هذا التزواج ، نكتشفه أيضا في تواتر المواقف وتشابهها : فبعد "الخبز الحافي" وما لا قته من حفاوة بالغة، من الدوائر الثقافية الغربية ، يصدر رؤوف مسعد روايته "بيضة النعامة"، وهي رواية مترعة بالمشاهد الجنسية الشاذة، و تنتمي إلى فصيل "الخبز الحافي"..يقول الناقد الحداثي العراقي عبدالله ابراهيم : " يتركز النص (بيضة النعامة) ، حول التجربة الذاتية لرؤوف مسعد ، التي تعرض بلا ادعاء و لا غواية ايديولوجية ، يريد المؤلف أن يبحث في مشكلة الجسد وذلك يقتضي كتابة تاريخ روائي لجسده ه.. " حيث " يتوحد الراوي مع الشخصية و التي هي المؤلف ، فيظهر الثلاثة في كل واحد بحثا عن الطبيعة المتموجة و الوعرة للجسد، إلى درجة يمكن تجاوزا القول إن "بيضة النعامة" ، سيرة جسد " حتى الآن يتضح أن المؤلف كتب "خبرته الجنسية" في صورة روائية، وهي في ذلك تلتقي مع "الخبز الحافي"، فإذا كان المؤلف في الأخيرة يسرد حكاية "تأجير جسده" للاجانب بحثا عن "لقمة العيش"، فإن رؤوف مسعد يروي تجربته فقط تمجيدا لمبدأ اللذة، وتبجيلا للمتعة : فبعد أن عاد عبدالله ابراهيم وأكد على ان "بيضة النعامة" ، هي السيرة الذاتية للمؤلف: " الإنعطافات الحسية و العلاقات الجنسية .. تعرض بلا مواربة ، تتناثر هنا و هناك، وجميعها أفعال انتهاكية جريئة ، يعاد انتاجها بوصفها عناصر من سيرة ذاتية استكملت شروطها التاريخية ، و انجزت ذاتها في الزمان ، و لم يعد الخداع ممكنا في عرضها طبقا لشروط الأعراف الاجتماعية " بعد هذا التأكيد، الذي أدرج في سياقه، أن المؤلف استوفى الشروط التاريخية والمكانية التي "تؤهله" لسرد هذه السيرة بكل انتهاكيتها ل "استقامة الفطرة الانسانية" و لثقافة العفة التي يستمسك المسلمون بعروتها الوثقى، بعد ذلك يقف "إبراهيم" أمام هذه الممارسات، بخشوع و تبتل! باعتبارها فعلا حداثيا لا يعير اهتماما للاعراف السائدة وما يهمنا في هذا الاطار هو تسجيل هذه الشهادة الصادرة من هذا الناقد الحداثي على أن الرواية "فعل فاضح"، وإن كانت في رأية "رائعة" من روائع الأدب الحداثي العربي إذ يقول : " تتضاءل الأشياء في العالم إلا بما لها علاقة بالجسد و تظهر ممارساته المثلية أو السوية بوصفها جزءا من تاريخية وجوده الطبيعي ، و ليس ثمة حرج ، إذ لا خوف و لا مواربة . و النص يطور تمجيدا متصاعدا لمبدأ اللذة ، و تبجيلا للمتعة ، و هو لا يخوض جدلا حول ذلك ، و لا يعرض حججا . إنما ينهمك بالفعل الجسدي ، و كأن الجسد يكتب تجربته و يمحوها ويعيد كتابتها، ولهذا فالنص لا يوقر الذاكرة، ولا يعطي أهمية تذكر لثقافة اجتماعية ترسب فيها ضغوط قاهرة و قامعة، يتفكه بسخرية من ذلك ، إذ يطرح الجسد عنفوانه المتنوع " انتهى وواقع الحال، أن هذا الوصف، هو تعبير عن ممارسة متحررة من البديهيات، التي يتباين بموجبها عالما الإنسان والحيوان، وتحمل على القبول ب"المشاعة الجنسية" عند "البهائم"، فهي قد تخلت طواعية عن التكريم الإلهي لها، بل ربما نقف أمامها، وقد اخذتنا الحيرة بشأن تصنيفها كل مأخذ.. فإذا كانت قد تخلت عن إنسانيتها، فإنه من الصعوبة علينا أن ندرجها فيما هو دون ذلك من الكائنات الحية، إذ لم يثبت علميا و لا بالمشاهدة اليومية، أن "البهائم" تقيم علاقات "جنسية مثلية" فيما بينها ! وبغض النظر عن اتهام المؤلف بأنه أخذ الرواية بالكامل، من مصدر غربي (من إحدى روايات هنري ميللر)، فإن الرواية على هذا النحو، كان من الطبيعي أن تصادر من الأسواق العربية، و لكنها لاقت الترحيب نفسه، الذي حظيت به "الخبز الحافي" في الأوساط الثقافية الغربية ، حيث تم ترجمتها إلى الفرنسية في باريس ! وللحديث بقية السبت المقبل بإذن الله تعالى [email protected]