اسمحوا لي أن أصدر مقالتي هذه المرة بشهادات بعض شباب مصر، ممن وقعوا فريسة الإلحاد، وهم يفخرون بذلك، وربما يعددون في هذه الشهادات أسباب إلحادهم، وقد يزينونها بكثير من الكلمات التي ربما تستدر تعاطف من يقرأها، وممن يحبون الاسترخاء على أسرة التبرير، ويتشبثون بأهداب العناكب.. وليفغر لي الله، والقراء جرأتي في الاستشهاد بهذه الكلمات لكي أصل إلى العلة فيما جرى ويجري على أرض مصر بعد الثورة.. وأبدًا بشهادة أحدهم : • الإيمان ب " الإله الصحراوي" أحد شروط المواطنة في مصر "...هكذا تقول الدولة المصرية وحتى تكون مواطنًا مصريًا يجب أن تؤمن بوجود الكائن الوهمي المدعو " الله " استغفر الله فكل الوثائق الرسمية تقريبًا، شهادات الميلاد والبطاقات الشخصية وعقود الزواج، أي مستند يمكن أن يثبت أنك مواطن مصري، يوجد به خانة ديانة يجب أن يتم ملؤها إجباريًا، ويلزمك القانون أن تملأها بواحدة من ثلاثة اختيارات فقط ( الإسلام - المسيحية - اليهودية )... فإن كنت لا تؤمن بأحد هذه الثلاثة أديان، فأمامك حل من اثنين: إما ألا تستخرج وثائقك وتعيش بدون جنسية أو هوية أو حقوق، أو تستجيب لقهر الدولة وتكذب وتنكر معتقدك الديني لكي تستطيع أن تعيش في هذا الوطن الذي يسيطر عليه الفاشيست المؤمنون. ببساطة شديدة : أنت ملحد في مصر، إذن فلا مواطنة ولا حقوق لك.. ليس مسموحًا لك أن تكون ملحدًا في مصر.. وكاتب هذه السطور ذاته، رغم إلحاده العميق، إلا أنه يكتب وسيظل يكتب "مسيحي" في خانة الديانة، رغم أنفه، حتى يستطيع أن يحصل على الأوراق الرسمية التي يحتاجها للحياة في مصر. • والثانية تقول: وهي لشاب كان عضوًا في جماعة الإخوان المسلمين، تخارج منها بكتاب هو « من قلب الإخوان» ثم سجل خيانة الإخوان للثورة في كتابه « من الإخوان إلى الميدان» كما قال عن نفسه في كتاب أصدره وضمنه شهادته واعترافه. " قررت أن أعطّل العمل بالإسلام في حياتي كدين، لأن «التنافر المعرفي» بين بعض تفاصيله وبين ما أظنه الرشاد والعدالة والمنطق وصل عندي حدًا لا أستوعبه، وأن أخفّض رتبته إلى «مستند ثقافي» يملأ فراغات صورة العالم في عقلي وقلبي ويضبط أخلاقي، إلى أن أجد أساسًا غيره أو أعيد اعتماده كدينٍ لي، لقد هز الربيع العربي ثقتنا بما كنا عليه قبل الثورات، وغدا واضحًا أن الافتراضات الأساسية التي قامت عليها حياتنا لم تكن سليمةً كلها، والمؤسسات التي أسلمناها قيادنا لم تكن ذات كفاءة أو أمانة، والشخصيات التي ركنّا إليها واعتقدنا بعلوّ كعبها وجدارتها لم تكن كما خِلنا، لذا بات عبء هذا الجيل أن يرفع كل ما حلّ فيه الشك إلى طاولة الفحص ليشرّحه ويستخرج باطنه حتى يبين الله الحق فيه، وأرجع تعطيله لدينه ومعتقده الذي نشأ عليه إلى بعض الحوادث التي نسبت لدعاة، وقادة دينيين عملوا بالسياسة وخلطوها بالثورة، ويبرر فعلته هذه بما يلي: ولقد فجعتني -في هذا الظرف الفوّار- ثلاث حوادث سياسية اقترن بها جدالٌ فقهي: الأولى: الاحتجاجات العنيفة على الفيلم المسيء للنبي محمد، التي أبرزت عقوبة سب النبي في الشرع هي القتل. الثانية: في المقابلة التليفزيونية التي انكشف فيها أمر لقائه السري بأحمد شفيق، سأل المذيع وائل الإبراشي الشيخ ياسر برهامي نائب رئيس الدعوة السلفية بالإسكندرية عن «تزويج الطفلة» فقال إنه لا يمكنه أن يحرّم ما «أحلّه الله ورسوله»، وأن تزويج القاصرات جائز «إن كنّ مطيقات». الثالثة: إحراق نشطاء حركة «إيرا» المناهضة للرِقّ في موريتانيا أمهات كتب الفقه المالكي، التي تعتبرها الموالاة والمعارضة هناك «ثمرة القرآن والسنة» والمساسَ بها مساسًا ب «قيم المجتمع وهويته»، وهي الكتب التي تميز بين الحر والعبد في حق الحياة، فتعفى السيد من أي عقوبة إذا قتل عبده عمدًا أو خطأ، وإذا قتل عبدَ غيرِه لا تُلزمه إلا بدفع «قيمة» العبد لسيده الذي خسره. أضف لهذا هؤلاء الذين عينوا أنفسهم «حراس العقيدة» و«حملة لواء الدين» ويظنون أنهم في مهمة مقدسة وأنهم أولى بالبلد وأقرب للرب وأفضل من الناس، ثم هم يكذبون ويُخلفون الوعد ويعقدون الصفقات التي نشك في براءتها وينشرون الإشاعات التي توافق هواهم ويقدّسون قادتهم ويخوضون في أعراض من يخالفونهم الرأي ويرجئون العدالة الاجتماعية إذا تعارضت مع استتباب الأمر لهم، أهذا هو الدين؟! حسنًا، ديني غير دينكم. لكنّ الأمر يتعدّى الوقائع الثلاث تلك إلى قضايا أكبر، إنه لا شيء يدعو جيلي إلى الثقة باختيارات مجتمعه والرضا بمُسلّماته، لقد آل أهل بلادنا إلى فشلٍ مذلّ وفقرٍ فاضح، ثم هم يُمنّون أنفسهم إذا عادوا لماضيهم أن يَعزّوا، بينما يجاورهم على الأرض بشرٌ يباشرون عالمهم وينتفعون بمستودعات الحكمة والفوائد التي جعلها الله فيه فعزّوا عزًا حقيقيًا لا وهم فيه. والغريب في أمر من يدعي ويسعى إلى تبرير انتشار الإلحاد في مصر.. بأنه نتاج إحداث إسقاط على الأيام الأولى لثورة يناير التي بدأت بحركات 6 إبريل وكفاية وغيرها من الحركات الليبرالية حتى دخلت الحركات الدينية متمثلة في الإخوان والسلفيين والمسيحيين, وعلى الرغم من مرور الأيام إلا أن أغلب التيارات الليبرالية تنسب لنفسها شرف الشرارة الأولى لثورة يناير والتي تعتبرها كعكة حصل الإسلاميون على النصيب الأكبر منها، ونفس الحديث من الطرف الآخر، وهو الإسلاميون وجحدوا نصيب الشعب المفجر الأول لها, والملحدون والشواذ وغيرهم كانوا من طليعة الشباب الذي شارك في ثورة يناير أملًا منهم في فرض أنفسهم ومطالبهم على المجتمع ولكن تأتي الرياح بما لا تشتهى السفن فقد فتحت الثورة الباب لانتخابات شرعية أفرزت تيارًا دينيًا أكثر صرامة مع الملحدين والشواذ, ولذلك أصبح هؤلاء يلعنون الثورة التي صنعت لهم جلادين جددًا يختلفون معهم جملة وتفصيلًا علاوة على تحصن هؤلاء الجلادين بقوة الشعب الذي لا يسمح بهذه المهزلة لإعلاء كلمة الدين والأخلاق فوق الجميع, وبذلك أضاف التيار الديني لنفسه عدوًا جديدًا لا يختلف معه في هيمنته على الحياة السياسية أو مدنية الدولة فقط ولكنه عدو مناقض تمامًا ولا سبيل للتوافق بينهما على الإطلاق بل إن وجود أحدهما يعنى الموت للآخر, وهذا يفسر لنا الرغبات المستميتة من هذا التيار لزرع الفتن والمؤامرات وإفساد الحياة على الإخوان والسلفيين في محاولة أشبه بالمستحيلة للعودة بالدولة إلى ما قبل ثورة يناير بعد خيبة الأمل الكبيرة التي مني بها هؤلاء من النتائج التي أفرزتها الثورة الكريمة. من الغريب أنك سوف تكتشف أن جمهرة الملحدين من خريجي الأزهر الشريف وهم عدد لا يستهان بهم، وهذا ليس غريبًا.. وتلمح ارتفاع المستوى الثقافي والتعليمي للملحدين بشكل عام، فمنهم باحثون، وأساتذة جامعة، وأطباء ومهندسون ومتخصصون في اللغة ودارسو فلسفة، وفيزياء، وغيرها من العلوم والمعارف، كما أن عددًا كبيرًا منهم ينتسبون إلى جماعات سلفية أو إسلامية أصولية أو رهبان سابقون. وعلى الرغم من تهافت منطقه إلا أن الأمر الذي يدعو إلى الولوج إلى مناقشة القضية بالكثير من التعمق والروية، يستدعي القول إلى أن ما جرى أرجعه أنا إلى العناوين التالية: • ضعف الوازع الديني لدى أسر وعائلات من قادهم هذا الضعف إلى الارتماء في أحضان الإلحاد وأصدقائهم من الملحدين. • النظام التعليمي والتربية الدينية في المدارس وهذا باعتراف الكثيرين منهم. • التعصب الديني الذي برز من خلال الممارسات الخاطئة لبعض المنتسبين للأديان ولجوء الكثير منهم إلى العنف بكل أشكاله في التعبير عن الرأي. • الافتئات على الدين بالكثير من الفتاوى والآراء والقناعات الشخصية لبعض علماء ورجال الدين المسيسين، انتصارًا لانتماءاتهم وتحزباتهم وتوجهاتهم السياسية والأيديولوجية. • غياب القدوة الدينية والسياسية والاجتماعية والفنية كذلك، وانتشار قضايا الفساد الأخلاقي والاجتماعي لدى النخبة المصرية، والعوار المجتمعي الذي أصاب قطاعات كبيرة في المجتمع المصري المدني منه والديني. • ربط بعض الملحدين بين النبوغ العلمي والإبداع الفكري والابتكار بالإلحاد والتدليل على ذلك بالسيرة الذاتية لعدد غير قليل من المخترعين والمبدعين التاريخيين ( مثال إديسون مخترع الهاتف والكهرباء والفلاسفة القدامى من أمثال نيتشة وداروين وغيرهما وعدد من المشاهير المعاصرين منهم جميل صدقي الزهاوي إسماعيل أدهم صادق جلال العظم عبداللهِ بنُ عليٍّ القصيميُّ فهدُ بنُ صالح بن ِ محمّد ٍ العسكرُ أحمدَ بن سعيدٍ المعروفُ بأدونيسَ). واسمحوا لي أيضًا أن أعيد كتابة بعض العبارات التي تم صكها في مصلحة صكوك الملحدين الجدد لعلها تكشف لنا حجم المأساة التي يعيشها هؤلاء.. والمستنقع الذي يجروننا للوقوع فيه. • الصورة التقليدية حول المصري «المتدين بطبعه» بحاجة إلى كثير من المراجعة، • ظهور تيارات الإسلام السياسي في السلطة لن يفيدهم بشيء عندما يصبح المتدينون في مصر أقلية. • استيلاء بعض تيارات الإسلام السياسي على السلطة في مصر، واستئثار البعض منهم بمفاصل الدولة المصرية. • سيطرة الفكر الديني على سلوطيات المصريين بعامة، وعدم السماح لأبنائهم بالتعبير عن آرائهم وأفكارهم الملحدة هذه. • غياب القدوة على كل مستويات العمل الإنساني والفكر والاجتماعي. يتبع