السياسة بحر متسع المساحة، متباعد الشواطئ، بعيدة المنال أعماقه، متنوعة الألوان حيتانه، زرقته ملاعبة، و موجاته مداراة ومداهنة، وتُخرق فيه مراكب الصدق، وتمخر عبابه عماري المصلحة، وتغرق مدوده شواطئ الإنسانية، وتسحب جزوره الأخلاق سحبًا. فسدت لدى الناس المنغمسين في هذا الأمر الجلل بنظرياته الحديثة ومعانيه الجديدة بل لدى عامة الناس أخلاق عدة حميدة واستبدلت بأخلاق أخرى ليست عجيبة، فبذورها لدى العجول الكفور الهلوع الجزوع المنوع موجودة تحتاج فقط لري، فكأن الشيطان والنفس والهوى يحفرون قنيات فتروي تلك البذور الخبيثة فتنمو وتترعرع ولكنها لا تزال ما لها من قرار، ويبدو أن قنايا السياسة واسعة إذًا. وإذا سردنا بعضًا من الأخلاقيات الحميدة التي غيبتها السياسة نذكر الآتي:- أولًا: الصدق والصراحة: فلا يذكر مصطلح السياسة إلا مقرونًا بكلمات مثل: "أكاذيب" و"ألاعيب" و"حركات" و"دجل"، وهذه كلها أعداء للصدق ومقابلات، فالصادق لا يعد سياسيًا لا على مستوى إدارة الشعوب ولا على مستوى تعاملات الأفراد والإنسان الذي ما زال فيه بقية من قلب يستطيع أن يفرق بسهولة بين الحنكة والكذب والصراحة والخداع. ثانيًا: الإخلاص: فللإخلاص نكهة لا تعادلها نكهة ويعطي أي عمل رونق لا يعطيه أي شيء آخر، ولكن مع انفتاح أبواب السياسة على الناس انفتح باب ذو عذاب شديد على الإخلاص، فالقوافل الطبية دعاية انتخابية والشوادر الخيرية اكتساب للأصوات، وغيرها وليس العاملون في هذه الأمور موضع اتهام بالرياء، ولكن إخلاصهم يتهدده تهديد كبير. و رحم الله أيامًا كان الفقير يستيقظ صباحًا ليجد ما لذ وطاب على بابه دون أن يعرف أبدًا من وضعه. ثالثًا: الثبات على المبدأ: أحيانًا يمدح تغير الوجهات وتقلب المواقف طبقًا للمصلحة ولكن الشر كل الشر في التقلب في المبدأ ذاته تحت وطأة المصلحة فإن قدمت المصلحة على المبدأ فإما المبدأ فاشل وإما المصلحة مصلحة أشخاص. رابعًا: الإيمان والشجاعة والتوكل: وهؤلاء الثلاثة لا يفترقون أبدًا فالشجاع هو من صح إيمانه بمبدئه، ومن يصح إيمانه يكون توكله على خالقه، ولكن تحس في عالم السياسة سيادة لهجة سوء الظن بالله، وفي جو السياسة الذي تغلب عليه الأثرة وحب الدنيا قد يصرخ الحق طلبًا للشجعان فلا يجدهم لأنهم ببساطة سلموا أنفسهم لحسابات السياسة التي يكون الجبن معامل أساسي في حلها وعدم التصدر للحق والتصدي للباطل فلا شجاعة حقيقية في السياسة فكلها شجاعة أدبية قد تكون مصطنعة أيضًا. خامسًا: الحب: الحب في السياسة لا يكون إلا حبًا للذات وحبًا للدنيا وحبًا للظهور، والإخلاد للأرض وعشق متاع دنيوي زائل هو ما يشغل قلوب أهل السياسة، والبعض -و إن تشدق بحب الناس – فلا يرى الناس إلا مطية لأهدافه بلا لا يرى أن البشرية تستقيم إلا بعلوه وسموه وتفوقه. فما سبق بعض من الصفات لو تجرد الإنسان منها ماذا يكون إذا؟ّ أترك الإجابة للإنسان نفسه وأتركه بعد ذلك يتخيل أن هذا المتجرد هو من يمسك بتلابيب أموره ويتحمل تسيير شئونه.. ليرحم الله البشر إذًا.