السؤال أوجهه إلى ضمير كل من شارك في إعداد ما يسمى بقانون السلطة القضائية، وكل من نادى بتخفيض سن معاش القضاة إلى ستين عامًا بدلًا من سبعين، هل هذا التعديل قصد به تطهير القضاء من الفساد؟ بمعنى، هل كل قاضٍ الآن فوق الستين هو فاسد بالحتم أو مشروع فساد، ومن هم تحت الستين غير فاسدين مثلًا، أم أن المسألة عملية تفريغ مقصودة وممنهجة للقضاء من أجل سيطرة فصيل بعينه عليه بعد ذلك كجزء من مخطط استباحة الدولة والهيمنة عليها؟ وإذا صح وهو صحيح أن كفاءة القاضي تتعاظم مع تراكم خبرة العمل لديه، أي أن شيوخ القضاة هم رحيق الزهر لهذه المؤسسة العريقة وهم مرجعيتها الفنية والأخلاقية، فما معنى عقد مذبحة للإطاحة بهم أو "تفويرهم" على حد التعبير المهذب من الأستاذ مهدي عاكف؟! ما معنى الإطاحة بالمجلس الأعلى للقضاء كله باستثناء واحد أو اثنين، وشيوخ محكمة النقض وجميع نواب رئيس المحكمة إلا قليلًا وشيوخ المحكمة الإدارية العليا إلا ما ندر ورؤساء محاكم الاستئناف إلا قليلًا؟ ما معنى تفريغ القضاء من ثلث طاقته على الأقل وجميع خبراته الكبيرة في الوقت الذي يشتكي فيه الوطن من قلة عدد القضاة وتراكم القضايا؟ لصالح من نفعل ذلك؟! هل هو إصلاح للقضاء أم تدمير له؟ هل هي خطة إصلاح تشريعي نبيلة ومتجردة أم أنها جزء من صراع سياسي وحشي تستخدم فيه السلطة ما تهيمن عليه من أدوات الدولة لتصفية أي مؤسسة تعترض طريقها نحو الهيمنة والتحكم في الدولة؟ لقد أطاح عبد الناصر باثنين وأربعين قاضيًا فسجل التاريخ في أقبح سلبياته ما عرف بمذبحة القضاء، فما الذي سيكتبه تاريخ العار عن التنظيم الذي يخطط لذبح ثلاثة آلاف قاضٍ دفعة واحدة، وسط "هوجة" من العواطف الجاهلة التي لا تبصر أبعد من تحت أقدامها؟ إنهم يركزون في إطار حملات التشهير على ذكر اتهامات لقضاة بأسمائهم ويرددونها باستمرار، والحقيقة أن ذكر قضاة بأسمائهم وكثرة ترديد هذه الأسماء لدى كل من يكتب عن ذلك هي شهادة للقضاء بالنزاهة ضمنيًا، لأنه كما يقول الشاعر "كفا المرء نبلًا أن تعد معايبه"، فأن تعد بالأسماء عدة أشخاص، فهذا يعني أنها ظواهر أقرب للفردية، وبعضها مستفز بالفعل وكثرة ظهورهم في الفضائيات تسبب في هوان للقضاء، أما الحديث عن أن القضاة ظلموا في الحكم بحل مجلس الشعب مثلًا أو غلق بعض الفضائيات وتبرئة بعضها الآخر، فهذه كلها اجتهادات ووجهات نظر ولا يصح أن يجعل كل واحد من نفسه قاضيًا يقرر ما كان يجب على القضاء فعله، وموضوع مجلس الشعب المنحل كان معروفًا مسبقًا أن قانونه لم يكن دستوريًا، والكل كان مسلمًا بذلك، الإخوان قبل غيرهم، وذلك لأن الترزية الجدد كانوا متعجلين ولم يستمعوا للنصيحة، لم يكن هناك خلاف على عدم دستورية القانون، ولكن الخلاف كان حول: هل عدم الدستورية يتصل بثلث البرلمان أم بالبرلمان كله، وتلك وجهات نظر نختلف فيها، وأما الحديث عن إهدار دماء الشهداء وتحميل القضاة مسؤولية هذه القضايا، فهذا مع الأسف يشمل شهداء فترة مبارك، وشهداء فترة المجلس العسكري، وشهداء فترة الدكتور محمد مرسي أيضًا، والأسباب تتعلق بالتشريعات وإجراءات التوثيق، ولا تتعلق بانحياز القضاة أو هروبهم من المسؤولية والأمانة. دعونا نتكلم بصراحة لا تحتمل تلك اللحظة التاريخية الفارقة غيرها، ولو كانت جارحة، هناك جناح في السلطة الآن يلعب بمشاعر وعواطف الإسلاميين من أجل استثمارها في تدمير مؤسسة القضاء وإعادة تشكيلها على مقاييسه هو وحساباته هو وبما يحقق له بسط النفوذ والسيطرة المباشرة أو غير المباشرة على القضاء ليكون أداة ردع بيده ضد أي معارضة حالية أو مستقبلية له، هذا الجناح يرى أن القضاء هو حجر العثرة الأكبر في وجه بسط سيطرة الإخوان على الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وبدء تفكيكها لإعادة صياغتها بالكامل، على الطريقة السودانية، والقضاء يقف بالمرصاد لإجراءات وقرارات خاطئة بالفعل وشديدة الخطورة، مما يحرج السلطة ويفضح جهلها ويضطرها للتراجع، فتبدأ عمليات استدعاء الخطاب الشعبي التحريضي العاطفي ضد القضاء وتهييج الرأي العام ربما تمهيدًا لمذبحة قضاء جديدة، .. فالمحصلة أن ما يحدث الآن من تهييج على مؤسسة القضاء هو قنابل دخان مزورة ، ومحسوبة بعناية ممن يطلقونها ، لكي يستغلوا عواطف بريئة ، باسم تطهير القضاء ، وهي حملة لا صلة لها أبدا بتطهير القضاء أو إصلاحه ، بل هي مدمرة للقضاء ومفسدة له إلى أبعد الحدود ، وستكون مآلات هذا المخطط سوداوية على مصر ومستقبل الديمقراطية فيها إن كتب له النجاح ، فأرجو من كل مخلص لهذا الوطن أن يحكم عقله ، وأن ينظر إلى مآلات الأمور ، ويتأمل ما وراء الخطاب الديماجوجي التحريضي الانتهازي ، نريد أن نبني دولة المؤسسات ، واستقلال السلطات وسيادة القانون ، ومذبحة القضاء التي يخططون لها الآن هي أو خطوة لبناء دولة التنظيم واندماج جميع السلطات في قبضة واحدة ، وسيادة إرادة الحزب الواحد على القوانين والشرعية .