على مدار يومين في هذا الأسبوع شاركت في لقاءين بغزة جمعا السيدين وضاح خنفر وبشير نافع مع عدد من المثقفين والشباب أغلبهم ذوو توجهات إسلامية.. كان اللقاءان من حيث لم أحتسب فرصةً ثمينةً لقياس اختلاف طريقة التفكير بين جيل من الشباب الفلسطيني ولد ونشأ في قطاع ضيق محاصر ومعزول عن العالم فهو لا يرى المسائل سوى من زاوية ضيقة فرضتها عليه ظروف نشأته الجغرافية والسياسية والاجتماعية، وبين شخصيات متنورة سافرت كثيرًا حول العالم الفسيح المتعدد وخالطت ثقافات وشعوبًا مختلفةً وأنجزت بحوثًا وأنشطةً اجتماعيةً وسياسيةً مواكبةً للتغيرات العالمية.. لم يكن من السهل إخفاء الفجوة الثقافية بين الفريقين، فبينما يتحدث الضيوف بلغة واقعية، كشف حديث الشباب عن كثير من الطيبة والإخلاص وحب التضحية وعشق البطولة والاعتزاز بالدين والتاريخ لكنه كشف أيضًا عن نقص في جانب فهم الواقع والعجز عن الموازنة بين البطولة والتضحية وبين الواقعية السياسية، وإدراك التطورات الهائلة التي طرأت على الفكر الاجتماعي السياسي العالمي في القرون والعقود الأخيرة، بالطبع لم يخل اللقاء من شباب متنورين يفهمون عالمهم المعاصر لكن الذين يتحدثون بلغة منفصلة عن الواقع يمثلون ثقلًا له تأثيره المجتمعي ومن الصعب تجاوزه. ما يتبين من هذه الحوارات هو أن منسوب التعبئة الأيديولوجية في قطاع غزة يتغلب على الواقعية السياسية بل لا يترك متسعًا لها، ومن صفات لغة الأيديولوجيا أنها لغة حدية صارمة بخلاف لغة السياسة التي تؤمن بالمنطقة الرمادية وبالحلول الوسط، الأيديولوجيا تكثر من استعمال مفردات التمايز والفسطاطين والاصطفاف العقدي والإيمان والكفر والوطنية والتخوين ونحو ذلك من خطاب حدي صارم لا يؤمن بإمكانية التعايش مع الآخر ويؤمن بديلًا عن ذلك بلغة الفرز والحسم والتطهير والاجتثاث. أظن أنني لمحت في عيون الضيوف آثار صدمة وهم يفاجئون بلغة مختلفة تمامًا، فبينما يتحدث الضيوف عن قراءة استراتيجية لمستقبل المنطقة وفهم المعادلات الإقليمية والدولية وضرورة تعزيز التوافق المجتمعي وتقبل الآخر لنتمكن من مواجهة العواصف العاتية يتحدث شباب متحمس عن المفاصلة والبراء من الخونة وضرورة تطهير المجتمع وإقامة الدولة الإسلامية والخلافة الإسلامية! حول حلم الدولة الإسلامية والخلافة تحديدًا قال الضيوف إن هذه الفكرة لم تعد واقعيةً وإن إقامة دولة إسلامية وفق الصورة النمطية التاريخية المستقرة في أذهاننا مآله إلى الفشل، كما كان الحال في أفغانستان وإيران والسودان فطبيعة مفهوم الدولة والمجتمع والعلاقة بينهما تغير عن مفهوم الدولة في زمن العباسيين مثلًا، ووظيفة الدولة اليوم هو أن توفر إطارًا مدنيًا يتعايش فيه الجميع وتطلق فيه الحريات ويمكن الاستفادة من المبادئ الإسلامية العامة مثل الشورى والعدل في صيغ تطبيقية معاصرة لكن بفهم واقع اليوم وليس بسجن عقولنا في أشكال تاريخية تجاوزها الزمن.. إشكالية تقدم التعبئة الأيديولوجية على الفهم السياسي يتحمل شيئًا من وزرها وفق وضاح خنفر سياسات التنظيمات التي تعبئ شبابها في لحظات الصراع ضد الفريق الآخر بصفات تصل إلى حد شيطنته والقطيعة النهائية معه. بعد هذه التعبئة من الصعب على الشاب المنظم أن يتقبل محاورة قياداته مع عملاء الأمس وتبسمها في وجوههم، وكان الأصوب أن تحافظ القيادات على الطبيعة السياسية للاختلاف وألا تحرق مراكب العودة، إذ إن منطق السياسة يقول إنه ليس من عدو دائم أو صديق دائم فوجب الحفاظ على لغة هادئة تتيح الرجوع مستقبلاً "عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة".. التعبئة الأيديولوجية ليست دينًا كما يظن البعض بل هي مرض يلغي العقول ويخلق التعصب ويحصر الدين في شرنقة لا يستطيع تجاوزها لاستيعاب المجتمع، الدين هو دعوة للفكر والفهم ولا يمكن أن يطبق الدين تطبيقًا صحيحًا سوى بفهم التغيرات الاجتماعية والسياسية فهمًا شاملًا وأخذها بعين الاعتبار.. المجتمع الفلسطيني خاصةً في غزة غدا معبأ أيديولوجيًا إلى حد الإشباع، ولم تعد الهوية الإسلامية مهددةً أو مثار خلاف في المجتمع، لذا فإن الحركة الإسلامية مطالبة بأن تتقدم خطوةً إلى الأمام نحو اعتماد خطاب وطني جامع يستوعب كافة ألوان الطيف الفلسطيني تحت عباءة وطنية فضفاضة، وأن تخفف من حدة التعبئة الأيديولوجية لصالح تعزيز التقارب المجتمعي، فمهما تعددت الرؤى الفكرية والسياسية، فنحن أبناء وطن واحد، وأقوى رصيد يمكن أن نستعين به في مواجهة التحديات التي تتهدد المشروع الوطني هو المحافظة على وحدة النسيج الداخلي.. أحمد أبو رتيمة-كاتب فلسطيني [email protected]