انهارت لدى الإنسان قيمة العمل وصار مجرد مصدر لتحقيق المادة، ففقد العمل جماله ورونقه الذين طالما تغنى بهما الفلاسفة، ولم يعد متعة يزيدها الإبداع جمالًا، والإتقان رونقًا، بل صار كلفة متحملة باضطرار، وذلك كله راجع للإخلاد إلى الأرض، وفقد الإحساس، وذلك نتاج طبيعي لطغيان المادة. وإذا رأيت الإنسان واطلعت على حاله أدركت أنه نزلت به عوارض عدة تسببت في فقده معنى الحياة و طعم العمل نذكر منها: أولا : الطمع.. فطالما الإنسان تملكه حب المادة لدرجة أن تجاوز عينه ما في يده والمتاح أمامه، ويكون مستعدًا لفعل أي شيء لأخذ ما في يد غيره، ذلك يجعله يطأ كل قيمة ويتجاوز كل متعة حقيقة أو سلام مع النفس للسعي وراء سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً. ثانيًا: فقد المعنى في كل تصرف.. وذلك نتيجة تسلط المادة، فكل تصرف وكل اهتمام لنفس الهدف.. المادة فيكون الليل مثل النهار رغم تعاقبهم واختلافهم وما في ذلك من آية بينة وبرهان واضح، والغدو مثل الرواح على تباينهما، فتصبح الدنيا ماسخة ولا متاع حقيقي فيها وكأن الإنسان يدور في دائرة مفرغة مستعبدًا، فلا يجد ثالثًا: تحول كل قيمة إلى المادية: فصارت المادية تحكم الأواصر والروابط ووضعت نيرها على القيم ( بالذات في مجتمعات الغرب ) مما عزز الأغلال في الأعناق و أفسد على الإنسان إنسانيته، فذابت الأسرة، وارتجت الصداقة، واحتضرت الأخوة، وذوت المحبة، وكل ذلك لانتباه العقول والأرواح ناحية المادة، وإن كان لا يزال هذا الأمر بعيدًا في بعض بلدان الإسلام التي ما زالت روح الدين القويم تسري فيها. فنذكر علماء الإسلام و فنانيه الأول الذين لم يكن ما يقدموه للمجتمع نظير المال أكثر منه نظير أداء رسالتهم للمجتمع، والاندماج بين شخوصهم وما يفعلوه حتى صارت صنعة كل منهم متعته الخاصة التي قد يبذل في سبيلها أكثر مما يربح منها بكثير، المهم أن يعيش تلك المتعة، وذلك كان لشدة في إيمانهم و قوة في يقينهم، وما زال في عصرنا من ذلك أيضًا، بل إن بعض آثار ذلك العصر موجودة وعامله في عصرنا وأذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مستشفى الحوض المكسور في حي السيدة زينب العريق بقاهرة المعز فتلك مستشفى منذ القدم أنشأت لعلاج الأمراض الجلدية وما زالت تعالج الناس بوصفاتها القديمة بلا مقابل أو بمقابل زهيد يمثل ثمن القارورة التي يوضع فيها الدواء. رابعًا: ضياع قيم التعفف والترفع بوجه خاص... كناتج أكيد للظروف الاقتصادية، فقد أبدعت الرأسمالية في التضييق على الناس حتى يكونوا عبيدًا لنظمها المستبدة المفسدة ( وما الاشتراكية إلا شكل بشع من أشكال الرأسمالية المادية المجحفة والمختلف هو المالك لرأس المال و لكن نفس الاستبداد) فضعف هامش التعفف والترفع. خامسًا: نقص العلم و ضياعه... فنحن في عصر احترنا فيه بين الكم والكيف ومع ضعف صلة الروح بين العامل وعمله، وكذلك ضعف إحساسه بالرسالة التي يمثلها عمله للمجتمع، فضعف التعلم ومعه ضعف الإتقان واشتهر التقليد الفاشل، فقدْ فقدَ العامل اهتمامه بالتعلم والإتقان أصلًا لعدم رغبته، فللإتقان وقت لتعلمه وتكلفة، وربما لا يحتاج ذلك أصلًا فهو لم يحب عمله يومًا –ربما-، ولم يرغبه بل هو مجرد وسيلة طلب مادة للأكثرية. و في بعض الأحيان هناك من يستوعب رسالة عمله الحياتية فيستغلها بشكل سيئ فهو يدرك أهمية عمله ورسالته المجتمعية فيستغلها في الإضراب والضغط على العوام المطحونة لنيل مكسب ما قد يكون حقًا، وقد يكون مطمعًا، وقد يستخدمها في الضغط على الناس وإخراج كتبه ومعاناته على الناس الذين هم تحت رحمته ويحتاجون خدمته، فكأنه ينتقم من المجتمع في انتقامه من شخوصه المطحونة، وذلك صار واضحًا في كثير من بلادنا ولكن إذا عرف السبب بطل العجب، فالظلم كان لغة الأمة لزمن طويل وضياع الحقوق كان راية الأمة المشرعة لزمن طويل جدًا. فمتى يدرك كل منا رسالته حقًا ويجعل لحياته قيمة، ومتى نجعل لنا هدفًا يستحق أن نوجه له جهودنا.