هناك مشكلة حقيقية في جماعة الإخوان المسلمين ، ربما جاءت الانتخابات الأخيرة لمكتب الإرشاد والمرشد لكي تؤكد على عمق هذه المشكلة ، والأمر المؤكد حتى الآن أن هذه الانتخابات لن تحل المشكلة ، وربما تعقدها أكثر ، وقد تكون الجماعة مقبلة على أكبر صدع في تاريخها ، كل هذا محتمل وقائم بالفعل ، ولكني لا أتصور مشكلة الجماعة الآن مشكلة خلافات شخصية أو حتى مشكلة إصلاحيين ومحافظين ، لأن مسألة الإصلاح غير واضحة حتى عند من يوصفون بالإصلاحيين وتلك نقطة ضعفهم الأساسية في هذا الصراع الداخلي ، مشكلة جماعة الإخوان في تقديري تتصل بجمود كيان سياسي وديني كبير أمام تحولات عميقة وقعت للحياة السياسية والدينية والاجتماعية خلال العقود الأخيرة ، وما زالت تتواصل تلك التحولات مقابل استمرار حالة الجمود الفكري والتنظيمي ، وبتوضيح أكثر فإن الإخوان كفكرة قامت في نهاية العشرينيات من القرن العشرين كمحاولة لاحتواء قلق العالم الإسلامي من انفراط عقد رابطة وحدة الأمة بعد اختفاء الخلافة العثمانية التي كانت تمثل على هشاشتها آنذاك آخر معلم على وحدة الأمة السياسية والدينية ، نشأت الجماعة في ظلال فكرة "البديل" الشامل ، كنواة أمة بديلة ، تحتوي جماعتها في حركتها كافة مناحي النشاط الإنساني لأفرادها ، فهي الحزب السياسي وهي جماعة الدعوة وهي المؤسسة الاجتماعية وهي المرجعية العلمية الدينية وهي الخيار الثقافي والفكري والأدبي والفني وهي الحماية الاقتصادية وهي الأسرة الممتدة من حيث التناسب والتصاهر أيضا ، وقد عاشت الجماعة طوال عقدين بعد تأسيسها أجواء ليبرالية هشة في مصر أتاحت لها العمل العام بشكل هادئ ومتنامي وبدون مشاكل جوهرية ، في ظل رعاية وعبقرية الإمام المؤسس ، الشيخ حسن البنا رحمه الله ، ولكن الجماعة بعد ذلك بدأت تدخل في سلسلة من الصدامات السياسية والأمنية المتتالية مع جميع النظم التي تعاقبت على حكم مصر من قبل الثورة وحتى اليوم ، وقد رافق ذلك في البداية غياب الكاريزما والإمام الملهم والجامع ، فنشأ لهذا الكيان الرخو الضخم نواة تنظيمية صلبة وقوية تعمل بشكل سري لحفظ حياة الجماعة وتوجيه نشاطها ، حتى أصبح من الدارج اعتبار المرشد العام للجماعة مجرد شخصية رمزية للجماعة بينما إدارة نشاط الجماعة وتوجيه سياساتها الفعلية تتم من خلال أمينها العام ومجموعته التنظيمية الصلبة التي تهيمن على كل شيء ، سواء كان الشيخ مصطفى مشهور أو الدكتور محمود عزت من بعده ، والمهم بعيدا عن الأسماء ، أن الجماعة ظلت طوال أربعين عاما تقريبا ، منذ خروجها من سجون عبد الناصر وحتى اليوم تدار وفق منطق "النواة الصلبة" ، أو التنظيم السري القوي الذي يحفظ للجماعة حياتها وترابطها وبعدها عن الانفراط وكل ما عداه هو أشكال وواجهات وإثبات حضور في العمل العام لا أكثر ، ولكن كانت هذه الرؤية تصطدم دائما بواقع اجتماعي وإنساني وديني وسياسي وعالمي جديد ، لم يعد يقبل مثل هذا الكيان الشامل والبديل للأمة أو الدولة ، كما لم يعد يحتمل فكرة أن تدار حركة سياسية كبيرة وذات إمكانيات مالية وبشرية هائلة من خلال منطق التنظيمات السرية التي لا يمكن ضبطها وفق منطق قانوني أو تنظيمي عام في الدولة ، كما أن القوى السياسية والأحزاب والإعلام والمؤسسات الدولية لا يمكن أن تتعامل مع "أشباح" سياسية ودينية ، وقد ولدت أجيال جديدة في مصر وخارجها ، تنتمي إلى الإخوان فكرا وولاءا ، ولكن وعيها ومداركها السياسية والإعلامية والإنسانية والدينية والاجتماعية متشبعة بواقع إنساني جديد مختلف ومنفتح ومتحاور وشفاف ، بأدواته وأفكاره وزخمه ومنابره وحيويته ، والحقيقة فيه لم تعد ملكا للجماعة و"الأشباح" التي تقودها ، والمؤكد أن هذه الأجيال ووعيها الجديد أصبحت تمثل قلقا خطيرا لأصحاب فكرة "النواة الصلبة" ، والمؤكد أيضا أن تلك النواة ، أو رجالات التنظيم السري ، أصبحوا يمثلون عقبة أمام أي فكرة لتطوير الجماعة أو إعادة صياغة رسالتها وبنيتها وتجليات حضورها في المجتمع بكل أبعاده ، وقد كان أصحاب القبضة السرية العاتية يعالجون مثل هذا التمرد من قبل بعزل أصحابه ثم تهميشهم ثم بث الشائعات حولهم ثم قتلهم معنويا في النهاية بأساليب عدة معروفة بين نشطاء العمل السري ، ولكن يبدو أن تمرد الأجيال الجديدة أصبح أقوى وأخطر وأوسع من أن يهمش أو يعزل إلا بإجراءات عنيفة قد يؤدي استخدامها إلى تفجير الجماعة من الداخل ، وهذا هو ما تجلي في انتخابات مكتب الإرشاد الأخيرة . [email protected]