السيد عمرو موسى رجل محترم له من الخبرة السياسية ما يشفع له بالتربع على قمة النضال العربي السياسي، ولا يمكن أن نختزله في لحظة تاريخية فارقة في عمر الوطن معارضًا كان أو مؤيدًا. موسى هرم عربي بكل المقاييس، لا نقول ارتمى في حضن السياسة الخارجية قنصلًا أو ملحقًا دبلوماسيًا أو سفيرًا أو وزيرًا أو أمينًا عامًا فقط.. بل ارتمت السياسة في حضنه وسعت هي إليه فكان مثالًا سياسيًا في ظروف عربية عصيبة لم تهدأ أبدًا. قاد موسى الملفات العربية والمصرية الشائكة وأدارها باقتدار وسط مجموعة غيلان عالمية استطاع أن يوازن بها المواقف، فكان بين نارين: نار المقاطعة ونار المبادلة السياسية والدبلوماسية الناعمة للحفاظ على قدر مصر وقدر العرب كمن أمسك العصا من نصفها.. وقليل من يستطيع ذلك، فكلاهما أمران أحلاهما مرّ. الأهم من ذلك شخصية هذا السياسي القدير أو ما يطلقون عليها ( الكريزما ) أي جاذبيته ولباقة حديثة ، تلك الخاصية التي تمتع بها موسى فأحبه حتى من لم يفهم (الألف من الكوز الذرة ) كما يقولون، إذ تسرب هذا الشعور للعامة قبل الخاصة، ولم يستطع شعبان عبد الرحيم أن يخفي هذا الإحساس فدخل على الناس بقنبلته الغنائية الشعبية ( أحب عمرو موسى وأكره إسرائيل ) فدخلت القلوب ودخل بها موسى عصر التدوين الشعبي حتى رددها الشارع المصري، وربما العربي خصوصًا أن كاتب الكلمات بمنتهى الذكاء وضع حبنا لموسى أمام كرهنا الفطري لإسرائيل فسرت الأغنية في الناس كالصاروخ واقتحمت مشاعرهم فأحبه الناس . دخل موسى للبيت العربي دبلوماسيًا سياسيًا على المستويين المنصبي والشعبي وراهن على مواقف عربية كثيرة أعجبتنا كعرب، ومعروف أننا شعب يحب من يرمي إسرائيل في النار أو حتى من يهدد بذلك ولو بالكلام، فمن يريد حب الناس فليرم بأولاد صهيون في البحر.. من هنا عرفت كيف عشق الناس عبد الناصر في العالم العربي كله منذ أول حرف في جملته الخطابية الشهيرة ( أيها الأخوة المواطنون ) التي كانت على طريقة الراحل محمد الكحلاوي تدوبني دوب . لكن موسى راهن على هذا التاريخ العريق وشخصيته الكرازمية الناطقة وجمعها في سلة واحدة ورماها في لحظة فخرج بشخصيته من الواسع إلى الضيق واختار دون أن يفكر الحارة دون الطريق والأزقة دون الحي الراقي والمحلية دون الفضاء العالمي ، وركن إلى بيت ضعيف سياسيًا وتنظيميًا وموضوعيًا، وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت. ألقى موسى الألواح وترك قومه الكبير واختار ميقاتًا صعبًا كان عليه أن يفكر مرتين: أولًا هل يغامر بدخول انتخابات الرئاسة أصلًا؟ وثانيًا ماذا أفعل لو خسرت؟ وحقيقة هو لم يفكر في غالب الظن وزين له الشياطين سوء عمله فرآه حسنًا. ربما كان له الحق أن يدخل معترك الرئاسة، وهذه لعبة سياسية لها ما لها وعليها ما عليها، هو في النهاية سجال سياسي مطلوب، لكنه خسر، فماذا كان عليه بعد أن انكسر وسط ذهول شعبي بنسبة لا تليق به ؟ اختار موسى أن يحشر نفسه في خندق الفلول السياسية المأفولة ورضي أن يكون مع الخوالف فنسي ميقاتنا، نسي ميقات الشعب وحبه له وانحشر في خندق معارضة ضيق ليس له أي أرضية سياسية إلا أنه فريق منافس فشل ورسب في الامتحان، خصوصًا أن موسى دخل الرئاسة مستقلًا وخسر مستقلًا، ولم تنطل على الشعب لعبة الغطاء الحزبي الذي ألقوه عليه ظنًا منهم ومنه أنه ضمانة للوصول للاتحادية. لو ظل موسى بمفرده خاسرًا لكان أشرف وأحسن تفضيلًا، لكنه ما زال معميًا عن قراءة اللعبة السياسية ولم يفكر في ذلك الشعب الذي كان يقوم ويمسي على اسمه، فاتخذه آخرون مطية لتمرير مشروعهم المشكوك فيه خصوصًا مع منافس آخر في نفس اللعبة فكانت واضحة ومكشوفة ( أوي ) أنها معارضة من أجل الفشل الرئاسي وليست تلك المعارضة البناءة بروح (الهاردلك ) وكلنا ( خدام للوطن ) موسى كان بمقدوره أن يترفع، فالهزيمة الرئاسية مقبولة نسبيًا لكن أن يراهن على ماضيه السياسي كله ويرميه في فيلا بالدقي بلا هدف ورؤية إلا الانتقام من التلميذ الشاطر في ليلة الامتحان فهذا انتحار في نهاية العمر لا يليق لا بموسى ولا بعيسى ولا هارون ولا حتى بفرعون . تصورت أن عمرو سينخرط وحده بعد الخروج بشرف في مشروع تنموي راق وأن يستخدم خبرته وعلاقاته السياسية والدولية ويتولى عدة ملفات ساخنة كملف مياه النيل أو تفعيل اتفاقيات دول حوض البحر أو ملف مصر الأمني مع العرب والعالم أو ملف التنمية المستدامة والتعرفة الجمركية أو أطفال الشوارع والعنف ضد العمال وقضايا المصريين بالخارج.. وهو قادر على حشد المؤتمرات العالمية في هذه الاتجاهات ويقدمها شرابًا سائغًا لا للرئيس مرسي بل للوطن، وأعتقد أن الفرصة ما زالت سانحة في الرمق الأخير لاستلال هذا الدور كصدقة جارية لمصر في نهايات مشواره النضالي الكبير أطال الله في عمره وأن يخرج من ضيق المعارضة (المصلحجية) إلى أفق النفع العام قربانا لله وللوطن والتاريخ. * [email protected]