"التخصص ليس فضيلةً بل هو شر لا بد منه".. يقول شرودنغر: التخصص يتعارض مع طبيعة الإنسان المتكاملة، فالإنسان يعشق المعرفة فى كافة الاتجاهات، والتخصص يتعارض مع طبيعة العلم التوحيدية إذ لا حدود فاصلة بين مجالات المعرفة، بل هى وحدة متكاملة وأى محاولة لإقامة هذه الحدود، فإنه ينتج بتراً وإخلالاً بالوحدة العضوية.. يستعمل التخصص سيفاً مسلطاً على الرقاب لإلجام الخصم، فإذا أراد أحدهم أن ينتصر عليك فى حوار فكرى، فإن أقصر الطرق نحو ذلك أن يسألك عن تخصصك العلمى، فإن علم أنك غير متخصص أفحمك برد مزلزل بأنه حاصل على شهادة فى هذا الموضوع، مما يعنى أن عليك أن تسكت وألا تناقشه لأنه أفهم منك. قصة المتخصصين تذكر بسلطان الأباريق، إذ يحكى أن رجلاً كانت وظيفته فى حمام عمومى الإشراف على الأباريق والتأكد من أنها مليئة بالماء، فإذا جاء رجل أعطاه أحدها، ثم إذا فرغ من استعماله أرجعه إلى مسئول الأباريق الذى يقوم بإعادة ملئه للشخص المقبل، وهكذا.. وفى إحدى المرات جاء رجل فأخذ أحد الأباريق دون استئذان، فصرخ به مسئول الأباريق بقوة وأمره بالعودة إليه، فرجع الرجل فأمره مسئول الأباريق أن يترك الإبريق الذى فى يده ويأخذ آخر بجانبه، فلما سأله: لماذا! مع أنه لا فرق بينهما! قال مسئول الأباريق: إذاً ما عملى هنا؟ نفس القصة تتكرر مع المتخصصين خاصةً فى كليات الشريعة وأصول الدين فإن كتبت رأياً فى مسألة شرعية على بينة بعد أن طالعت وفكرت أبتدرك أحدهم بالقول: أنا متخصص فى هذا الميدان وأنت ما علاقتك حتى تتكلم فيه؟ يظن هؤلاء أن هناك أسواراً محكمةً قد ضربت حول ميدان تخصصهم، فلا يستطيع أحد من الناس الدخول إليها، ونسوا أن الإنسان بجهد ذاتى يستطيع أن يهدم كل أسوارهم وأن يتفوق عليهم فى مجال تخصصهم، بل وأن يبدع فيها. إن فرص الإبداع من خارج التخصص تتغلب على تلك التى تأتى فى إطاره، وذلك لأن الذى يقرأ من خارج تخصصه، فإنما يقرأ وقد سيطر عليه الشغف والاهتمام، لذا تكون لديه قدرة أكبر على الاستيعاب والهضم ورؤية الصورة كاملةً ومن ثم تجاوزها وإضافة الجديد عليها.. يقول المفكر السعودى إبراهيم البليهي: ليس مفاجئاً أن يكون أكثر الرواد المبدعين أو الأعلى إبداعاً والأشد تأثيراً كانوا من غير حملة الشهادات الجامعية، فضلاً عما هو أرفع منها من التخصصات العليا، حيث فاز بشرف التأثير الأشد والانتشار الأوسع، المبدعون الذين انفضّوا مبكرين من التعليم النظامى واعتمدوا على أنفسهم، ولا بد أن يكونوا كذلك، فالمنطق يقتضى أنهم الأقدر على التفكير المستقل والأقل خضوعاً للبرمجة والأكثر تحرراً من التدجين. فهذا آينتشاين كان يكره الدراسة النظامية كرهاً شديداً ولم ينجزها إلا بمشقة ومعاناة ومساعدة زملائه، لقد واصل الدراسة من دون رغبة، بل واصلها اضطراراً وبتأفف، وأعلن عن ذلك تكراراً وبوضوح، فمواصلته للدراسة جاءت لمسايرة الاتجاهات السائدة وشروط التوظيف، وكذلك فعل الرواد الآخرون الذين واصلوا الدراسة النظامية اضطراراً أو خضوعاً للأهل خلافاً لميولهم غير أن إبداعاتهم جاءت فى مجالات بعيدة عن المجال الذى درسوه.. يتناول كتاب "العلم فى منظوره الجديد" لمؤلفيه روبرت أغروس وجورج ستانسيو، مشكلة التخصص، فيقول: "التخصص الشديد يخلق صعوبات فى كافة حقول المعرفة وهو يضيق أفق العقل إذا كان مفصولاً عن فهم أعم".. كما ينقل الكتاب عن عالم الرياضيات موريس كلاين قوله: "إن ثمن التخصص هو العقم وربما تطلب التخصص براعةً فائقةً ولكن قلما يكون ذا معنى". ويؤكد شرونغر مبدأً يقول: "إن المعرفة المعزولة التى تحصلها طائفة من المتخصصين فى حقل ضيق لا قيمة لها البتة، إلا إذا أدمجت فى سائر حقول المعرفة، والمعرفة الناشئة عن الخبرة العامة تتيح أرضيةً مشتركةً يستطيع أن يلتقى عليها جميع المتخصصين فى العلوم والفلسفة والفنون. ولو حاول المرء الاستعاضة عن الخبرة العامة بالمعرفة التخصصية، كما تقترح النظرة القديمة لتعسر وجود أى سبب للاتصال فيما بين المتخصصين أو بين المتخصص وغير المتخصص". لقد كسر طوفان المعرفة احتكار المتخصصين وصار بإمكان أى أحد يمتلك الشغف والاهتمام أن يقرأ ويتوسع ويبدع.. والله أعلم.. [email protected]