كان قرار الرئيس "مبارك" بعدم تعيين نائباً له طوال 5 فترات رئاسية تنتهى عام 2011 مبعثاً للقلق على منصب الرئيس الذى توارثه نواب الرئيس فى عهد الجمهورية. ثم كان الدفع بنجل الرئيس "جمال مبارك" إلى حلبة العمل السياسى وتحلق نخبة من رجال المال والأعمال والاقتصاد الجدد الذين لم تعرفهم مصر من قبل عشر سنوات حوله والدفع به لتولى موقع أمين السياسات ونائب الأمين العام للحزب الوطنى الحاكم مبعثاً لمزيد من القلق حول مستقبل الرئاسة نفسها بل والبلاد كلها فى ظل التوجه الذى يتبناه هؤلاء من سياسات ليبرالية متوحشة وعنصرية وطنية مغرقة فى الشوفينية وابتعاد عن الدور العربى والإسلامى واقتراب من التغريب الأمريكى والأوروبى ومعاداة للتوجهات الإسلامية ورفض للعدالة الاجتماعية وتهميش للقوى السياسية المعارضة وعداء للحركة الإسلامية السلمية "الإخوان المسلمين" وحيث يشجعهم على ذلك أن ابن الرئيس صاحب الخلفية الاقتصادية والمالية لم يُعرف عنه أية أفكار سياسية أو اجتماعية وهم الذين يتولون الترويج لهذه الافكار ويلصقونها به وهو لا يتكلم او يرد عليهم بما يعنى ضمنا موافقته على افكارهم الخطيرة. القلق ليس داخل نفوس النخبة المعارضة أو القوى السياسية الفاعلة ولا حتى الشعب نفسه فقط، بل كان القلق أكبر و أكبر داخل الحلقات الضيقة التى يتصور العقل أنها تشارك وتساهم فى صنع القرار بإبداء الرأى والمشورة أو تقديم التقارير المختلفة فى كافة المجالات أو المشاركة فى بعض السلطة فى جزئيات مع تقدم الرئيس فى السن وعدم إمكانية متابعته لكل الملفات خاصة فى المواقع السيادية والعسكرية والإدارية العليا، بل حتى داخل الحزب الوطنى نفسه الذى بات مستقراً انقسام قياداته العليا إلى حرس قديم ورجال جُدد وافدون على الحزب خلال السنوات القليلة الاخيرة. مع الضغوط الخارجية الأمريكية لإحداث إصلاح سياسى دستورى التى أثمرت العدول عن طريقة اختيار الرئيس بالاستفتاء الشعبى على اسم واحد يرشحه ثلث أعضاء مجلس الشعب ويوافق عليه الثلثين إلى الانتخاب المباشر بين أكثر من مرشح بتصويت سرى عام. لقد تم تعديل المادة (76) من الدستور لتصبح أطول مادة فى دساتيرالعالم أجمع وأشبه بمواد اللوائح وليس مجرد القوانين أو الدساتير ووضع المشرعون فيها من العوائق والشروط التعجيزية ما يمنع كل راغب فى حلترشيح ولا يبقى إلا من يرضى عنه الرئيس الحالى والحزب الحاكم من قادة الأحزاب المرخّص لها ثم تم تعديلها مرة أخرى لتخفيف الشروط واتاحة الفرصةللمنافسة من جديد وبذلك فقد الانتخاب معناه ولم تعد المنافسة حقيقة او مجدية بعد أن تم تقييدها جداً. وفى خطوة تالية تم تعديل (34) مادة فى الدستورلمنع قيام أى أحزاب جادة ولها شعبية قوية كالأحزاب ذات المرجعية الإسلامية وإلغاء الإشراف القضائى على الانتخابات لتفقد ضمانات نزاهتها وإضفاء سمة دستورية على إبقاء حالة الطوارئ والمحاكم الخاصة والاستثنائية والعسكرية، مما جعل المناخ السياسى المصاحب للانتخابات الرئاسية والتشريعية مسموماً لا يسمح بالمنافسة ولا الحريات العامة. وبذلك بات اختيار رئيس جديد لمصر أمراً عسيراً فى ظل البيئة الدستورية والقانونية والسياسية وتأكدت الشكوك التى ظلت حبيسة الصدور بأن المسرح يتم إعداده ليرتقى نجل الرئيس سدّة الرئاسة فى مشهد مسرحى وخلفية تنافسية هزيلة. فى عام 2005 أفسد الشاب الطامح "أيمن نور" المشهد كله عندما حلّ وصيفاً للرئيس مبارك وحصد قرابة 8 % من أصوات الناخبين، فتم معاقبته بقسوة فى قضية جنائية ليقضى أكثر من 4 سنوات رهين الحبس والمرض، وكانت التهمة المعلقة فوق رأسه هى "التزوير" بينما كانت التهمة الحقيقية هى شكوك قوية لدى النخبة المسيطرة فى علاقات قوية بأمريكا التى تريد تغيير المشهد السياسى فى مصر بينما تحتفظ بأقوى العلاقات مع النظام الحاكم الذى تتماهى مواقفه مع السياسة الأمريكية. ومع اقتراب الموعد القادم للانتخابات الرئاسية عام 2011 بدأت إرهاصات الاستعداد لها . واتضع للجميع أن المسرحية الهزلية التى يريد أركان حمله التوريث إخراجها لا تليق بمصر وأنه لا يوجد منافسون للرئيس مبارك ولا نجله وفق القيود الدستورية المعوقة للجميع. هنا ظهرت أسماء جديدة يرشحها الشباب والنخب المثقفة، وظهرت حلول غير تقليدية يطرحها كبار المهمومين بشان الوطن. اهم هذه الحلول كان طرح الأستاذ محمد حسنين هيكل لفترة انتقالية يتولى فيها الرئيس مبارك رئاسة مجلس انتقالى يتم إعداد البلاد للمستقبل خلالها ويضم أهم الأسماء المطروحة على الساحة ووزارة ائتلافية أيضاً ويتم إعداد دستور جديد لمصر. وتم رفض ذلك الطرح بقسوة من جانب أركان النظام جميعاً، وبصرامة من جانب الرئيس نفسه الذى عاد بحيوية إلى المشهد ليوحى للمصريين أنه باق فى موقعه كما وعد ويبدد إلى حين أوهام التوريث لدى الحلقة الضيقة حول نجله او الحرس القديم الرافض للتوريث أو أركان الدول المصرية المتخوفين من سقوط البلاد فى قبضة مجموعة من المغامرين. خرجت معظم الأسماء المطروحة من حلبة النقاش، ولم يصمد إلا د. محمد البرادعى الذى ترك منصبه كمحافظ ومدير للوكالة الدولية للطاقة بعد 12 عاماً والحائز على جائزة نوبل للسلام والخبير فى العلاقات الدولية والسفير السابق بوزارة الخارجية. التف حول الاسم شباب كثير على شبكة الانترنت، وشباب آخر فى حزبين أو أكثر، وتم طرحه بقوة للانضمام إلى حزب "الوفد" بسبب جذور عائلتة الوفدية قبل الثورة. تكلم الرجل مرتين حتى الآن، الأولى فى حوار مع قناة CNN الأمريكية الشهيرة ليقول إنه يفكر فى الأمر والثانية التى أحدثت دويّاً وصدمة فى أوساط نخبة الحكم المصرية عندما أصدر بياناً يوم 3/12/2009 يحدد فيه شروط استجابته للدعوة التى يطالبه فيها عديد من المصريين بخوض انتخابات الرئاسة. لم تخرج شروط البرادعى عن تلك المطالب التى يطالب بها كل المصريين لضمان انتخابات رئاسية وتشريعية حقيقية ذات نزاهة ومصداقية .. كتنقية الجداول الانتخابية ووجود إشراف قضائى كامل على كل مراحل العملية الانتخابية والسماح بوجود مراقبة دولية واستقلالية تامة للجنة الانتخابات العامة. وكذلك رفع القيود التعجيزية وإزالة العوائق التى تمنع ترشيح غالبية الشعب المصرى وفتح باب الترشيح للجميع بما يعنى إمكانية ترشيحه كمستقل بعيداً عن الأحزاب دون الحاجة إلى تزكية 250 من أعضاء المجالس الشعبية المنتخبة والتى جاءت بانتخابات مزورة فى مجلس الشعب والشورى والمحليات. وطرح جزءاً من برنامجه حيث اشترط إجماع وطنى على القيم الأساسية لدولة مدنية تحقق الحداثة والاعتدال والحكم الرشيد وطالب بإعداد دستور جديد لمصر يحقق هذه المطالب. ماذا وراء طرح البرادعى هل هو شعور وطنى بخطورة المرحلة الحالية أم هو استجابة تلقائية للدعوة على الشبكة الالكترونية ومن بعض الاحزاب أم هى دفع من قوى فى النظام تخشى على مستقبل البلاد؟ غالباً هناك من شجّع البرادعى على طرح تلك المطالب ليحقق هدفاً رئيسياً هو تعويق حملة التوريث والإطاحة باوهام المحيطين بنجل الرئيس لأن مجرد طرح اسم بقوة البرادعى يطيح بفكرة أن مصر لا يوجد لديها أسماء قادرة على خوض الرئاسة، ويبدد أوهام إعادة مسرحية هزلية كتلك التى تمت عام 2005 ويجعل الرئيس مبارك هو المرشح الأقرب للحزب الوطنى الحاكم وحينئذٍ ستكون هناك فرصة سنوات جديدة للحرس القديم والنخبة الحاكمة لاعادة إحكام قبضتها والإطاحة بأعضاء لجنة السياسات الذين يظهر فشلهم فى كثير من الملفات وآخرها "معركة مباراة التأهل للمونديال مع الجزائر" ، لن تستجيب النخبة الحاكمة بجناحيها لمطالب البرادعى، وشنّت الصحف القومية الرسمية عليه حملة شعواء تقدمتها الأهرام، وسيتولى الرئيس مبارك بنفسه الرد عليه فى أقرب فرصة ليبدد فرص المطالبين بانتخابات جادة ويعيد للبرادعى نفسه التوازن المطلوب. لكن هل حقق بيان البرادعى شيئاً فى الواقع ؟ نعم، إذ لم تعد تلك المطالب التى أجمعت عليها المعارضة المصرية الجادة مجرد أمنيات طائرة فى الهواء، بل اكتسبت مصداقية كبيرة لدى الرأى العام المصرى، وأصبحت أحزاب المعارضة الرسمية فى حرج بالغ إذا خاضت الانتخابات القادمة فى مسرحية هزلية ، وأدركت النخبة العليا فى البلاد إدارية وعسكرية وسياسية أن مصر أمام مأزق حقيقى ، وأنها تبحث عن رئيس إن لم يكن للولاية القادمة التى ستكون فى الغالب الرئيسى مبارك الأب فستكون للولاية التى بعدها أو لأى سبب خلال تلك السنوات الست التى يجب أن يكرسها المصريون للبحث عن مخرج من ذلك المأزق الدستورى والانسداد السياسى الذى وضعنا فيه سيناريو توريث الحكم الذى أطاحت به فى الغالب مبادرة هيكل ومطالب البرادعى.