في هذه الأيام تلتفت أعناق العالم أجمع إلى أقصى الشرق، إلى هناك، إلى الأرض التي شهدت أكبر التجارب الإنسانية سرعة وإثارة في العصر الحديث فيما يتعلق بإعادة البناء والنهوض من كبوة مزلزلة، عقب قصفها بالقنابل الذرية الأمريكية، لتتصدر المشهد الاقتصادي العالمي، وتتحول إلى تجربة رائدة، ما زال الكثيرون حول العالم يعكفون على دراستها للاستفادة منها. عيون العالم وقلوبه تتعلق بهذا البلد الذي كان دومًا على موعد مع التحدي، فقبل عامين من اليوم وتحديدًا في الحادي عشر من مارس 2011 م، ضرب زلزال قوته 8.9 ريختر، شمال شرق اليابان، مما تسبب في حدوث مدٍ بحري هائل لأمواج تسونامي العاتية بارتفاع ما بين ثلاثة إلى عشرة أمتار زحفت جارفةً كل ما قابلها على امتداد السواحل اليابانية على المحيط الهادي، من منطقة توهوكو في الشمال وحتى منطقة كانتو بالقرب من طوكيو. وتمتد يدُ الكارثة لتطال المنشآت النووية بانفجار المبنى الخارجي لمفاعل فوكوشيما النووي، مما اضطر السلطات لإخلاء ربع مليون شخص حوله بعد حدوث تسرب إشعاعي، ليجتمع دمار الزلزال بدمار تسونامي بشبح التهديد بكارثة نووية. وما هي إلا ساعات حتى تكشفت حقائق الأرقام، وتوابع الفجيعة لتلك الكارثة الطبيعية، وباتت وسائل الإعلام العالمية لا حديث لها إلا عن تلك الكارثة الإنسانية، فمن أرقام تتحدث عن آلاف القتلى وآلاف الجرحى وآلاف من المشردين أو المفقودين، إلى مدن تم سحقها بمن فيها واختفاء أخرى من الخريطة إلى صور ملتقطة بالأقمار الصناعية للمد التسونامي وقد أزاح أمامه السيارات، والشاحنات، حتى الطائرات التي كانت على مدرجها، شوهدت تتنقل إلى أماكن أخرى بفعل المياه..!! كان لهول هذه المشاهد، وتلك الأرقام والإحصاءات، أثر كبير على المجتمع الدولي الذي هبَّ لمساندة الشعب الياباني في محنته، فتدفقت فرق الإغاثة الأجنبية على اليابان، وتسابقت العشرات من الدول، والمنظمات الدولية في تقديم يد العون للمناطق المنكوبة، إلا أن حجم الكارثة كان أكبر بكثير من تلك الجهود، إذ قُدِّرَت تكلفة الدمار، الذي خلفه تسونامي اليابان، ب 300 مليار دولار أمريكي. فما كان أمام اليابانيين - حكومة وشعبًا - إلا أن يستحضروا خصائص وسمات الشخصية اليابانية، والإرادة الوطنية التي عُرفت بالصمود، والقوة، والتحدي، وخلال أشهر قليلة استطاعت اليابان أن تخطو خطوات ثابتة نحو التعافي من آثار الكارثة، وما يمكن أن تخلفه من آثار على الاقتصاد الياباني، والبنية الصناعية والتكنولوجية التي يعتمد عليها، فاستطاعوا رفع ملايين الأطنان من الأنقاض الضخمة، وأعادوا بناء ما تهدَّم، بميزانية 50 مليار دولار، هي الأضخم منذ إعادة إعمار "هيروشيما" و"ناجازاكي" بعد الحرب العالمية الثانية، وعادت وسائل الإعلام لتنقل لنا صور عن التطور السريع والمدهش الذي قامت به اليابان- وما زالت - منذ الأحداث المأساوية وحتى الآن. في كل بلاد الدنيا تأتي الزلازل والحروب والكوارث لتخلف وراءها .. الخراب .. والدمار والفقر، ولكن في اليابان يتبع هذا كله نهضة متكررة وإرادة قادرة على التحدي، وشعبًا يأبى إلا أن يكون ملهمًا في كيفية تحويل آلامه وأحزانه إلى نهضة يتحدث بها العالم من جديد.. فهل ينجح هذه المرة أيضًا؟. محمد عبدالباقي كاتب مصري وباحث في الشئون الآسيوية [email protected]