المتأمِّلُ في أوضاع العالم العربي السياسية الراهنة، يلحظُ أن الملفّ العرقي والملف الطائفي، ثم الملف المذهبي، كلها قنابل موقوتة تَمَّ تفخيخها بعناية انتظارًا للساعة المحتومة؛ من أجل أن تكون نتائجها وخيمةً على تماسك واستقرار الدول العربية منفردة، حسب الخرائط التي أعدتها أوروبا الاستعمارية قبل جلائها عن عالمنا العربي، وكذلك تكون النتائج خطيرةً على مستوى تماسك ووحدة الدول العربية مجتمعة. ولكي لا ننساق إلى فكر المؤامرة، فإنه إذا كان الاستعمار الغربي قد خطط وأسس لهذه الملفات (وهذا واقع لا جدال فيه)، فإن الدول العربية لم تبذل الجهد الكافي من أجل إصلاح أمورها الداخلية على أسس الحريات والعدالة وإنصاف الأقليات، بما يحفظ لهم حقوقهم ويجعلهم شركاء في إدارة مجتمعاتهم ودولهم، وبالتالي تنتفي الحاجة إلى التمرد والعصيان. إن ما حدث في الشأن الكردي، حيث أصبح الأكراد منفصلين واقعيًّا عن الدولة العراقية، يتكرر الآن في السودان، ويمكن أن يتكرر في أماكن أخرى، والكارثة الجديدة أن الملفّ المذهبي (بين المسلمين وأنفسهم) ملتهب في اليمن وبدرجة أقل في لبنان وبعض دول الخليج، وإن لم تحسنْ معالجته فستتحول الدول العربية إلى كانتونات ومقاطعات. والغرب يستغلّ الملف الطائفي، حيث الاختلاف في الدين، من أجل تمزيق دولة عربية كبرى مثل مصر، ويساعد الغرب في ذلك الأوضاعُ الاقتصادية المتردية وحاجة مصر إلى المساعدات، من أجل أن ينفخ في هذا الملف ويقوي الأقلية الدينية كي تغالي في مطالبها. وكأننا ندفع ثمن بعدِنا عن الإسلام وشريعتِه، وعن التراث الإسلامي السياسي في الإدارة والحكم، فالدولة الأموية كانت دولةً كبيرة، والدولة العباسية كانت إمبراطورية كبرى تضم البلاد المفتوحة في أكثر من قارة، وهذه الدول بها أقليات عرقية ودينية، ومع ذلك تعامل معها المسلمون بكفاءة حققت لدولهم الاستقرار. وكانت آخر دولة إسلامية لها تراث محترم في حكم وإدارة البلاد التي بها أقليات هي الدولة العثمانية، ومع ذلك فإن الدول العربية بعد استقلالها عن المستعمر الأوروبي، بدلًا من أن تنقلب على هذا المستعمر وتتحرَّر من تراثه السياسي والثقافي والتعليمي.. نجدها قد انهزمت نفسيًّا أمام الدول الغربية الاستعمارية وسارت على نهجها في كل شيء، وفي المقابل أدارت ظهرها لكل ما له صلة بالإسلام من قريبٍ أو بعيد. وإذا كانت الحرب في السودان لم تتوقفْ منذ استقلال البلاد عام 1956م، فإن اتفاق "نيفاشا" للسلام الذي تَمَّ توقيعه عام 2005م، بين حكومة الإنقاذ الإسلامية الحاكمة وبين الحركة الشعبية لتحرير السودان، لينهي 22 عامًا من الحرب الأهلية، يتعرَّض الآن لاختبار حقيقي يمكن أن يؤديَ إلى فشله، مع ما يترتب على هذا الاحتمال من اشتعالٍ جديد للحرب في الجنوب، لن تكون كسابقتها؛ لأن الغرب سيقف معها علنًا بكل ما يملك على جميع المستويات السياسية والإعلامية والعسكرية. وإذا كنا لا نحبذ فكرة المؤامرة حتى لا نغرق فيها، فإننا يهمنا أن نعيَ أبعادها، ثم الأهمّ هو التركيز على دورنا نحن وإرادتنا نحن في مواجهتها وعدم الاستسلام لها. إذا كانت الضغوط الشديدة على حكومة الإنقاذ قد دفعتها إلى الموافقة على اتفاق "نيفاشا" للسلام عام 2005م، وكانت صادقةً في تنفيذ بنودِهِ حتى تؤكد للجنوبيين انحيازها للوحدة فيفضلوا هم أيضًا التصويت للوحدة عام 2011م كما ينصّ اتفاق السلام بدلًا من أن يختاروا الانفصال عن الدولة الأم ويؤسسوا لدولة جديدة في الجنوب، إذا كان هذا قد حدث من حكومة الإنقاذ، فإن ما حدث من حركة تحرير السودان هو العكس تمامًا، فتصرفات وتصريحات قادتها تؤكد أنهم ما أرادوا باتفاق 2005م إلا الانفصال، وأن كلَّ ما قالوه عن الوحدة ما هو إلا تصريحات إعلامية فقط، فالقومُ وراءهم من يستحثُّهم على الانفصال من أجل إضعاف السودان إلى أكبر درجة ممكنة. فالقياديّ بالحركة الشعبية إدوارد لينو يدعو جماهير ولايات النيل الأزرق وجبال النوبة وأبيي إلى ما سماه "ثورة شعبية" لتغيير نظام الحكم في الخرطوم، وقال لينو في ندوة أقامتها الحركة: إن تغيير النظام هو الطريق الوحيد لنيل الحرية والمساواة، وقال: إن حزب المؤتمر الوطني الحاكم يريد تحقيق ما وصفها بوحدة عرجاء من خلال تعطيل قانون الاستفتاء والمشورة الشعبية. ويؤيد وزير الخارجية دينج ألور تصريحات إدوارد لينو بتصريحات شخصية له يقول فيها: "إن أغلبية ساحقة من السودانيين الجنوبيين ستصوت لصالح الانفصال في الاستفتاء"، وأضاف ألور: إن المعجزة وحدها تستطيع إنقاذ وحدة السودان، متهمًا حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال بعدم مساعدة الجنوب لقبول خيار الوحدة عند إجراء الاستفتاء عام 2011م، ويتضح موقف ألور أكثر وهو يتحدث في مؤتمر ترعاه الأممالمتحدة بشأن مستقبل السودان، بقوله: "حزب المؤتمر الوطني الحاكم في الشمال لا يزال يقمع الجنوبيين ويسلح ميليشيات جنوبية مسئولة عن الموجة الأخيرة من العنف القبليّ". ثم نأتي إلى كبير القوم سلفاكير، زعيم الحركة ونائب رئيس الجمهورية، الذي قال بجوبا عاصمة الجنوب، في قداس لإطلاق حملة للانتخابات المقرَّرة العام المقبل: "عندما تصلون إلى صناديق الاقتراع يكون الاختيار لكم، إذا كنتم تريدون أن تصوِّتوا من أجل الوحدة حتى تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية في بلدكم فذلك هو اختياركم". ورغم أنه، ظاهرًا، توصَّل حزبا المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لاتفاقٍ يقضي بحلّ جميع الخلافات العالقة، والاتفاق على جميع القضايا ذات الصلة بالانتخابات، إلا أنه يبدو أن الجنوبيين متربصون، ولذلك فإن أحد كبرائهم يعلِّق على التوصل لهذا الاتفاق بقوله: "إن الحركة ستراقب تطبيق الاتفاق قبل أن تعلنَ موقفها النهائي". الحركة لم تتخذْ أية خطوة لحسنِ النية، ولم تعلنْ عن عودة نوابها إلى البرلمان بعد مقاطعة دامت أسبوعين، ونسيَتْ أنها شريكة في الحكم وتفضل بدلًا من ذلك الحديث بلغة أحزاب المعارضة، حيث هدَّدت بمقاطعة الانتخابات إذا لم يتمَّ إقرار مجموعة من القوانين التي تراها "ديمقراطية"، كما اتهمت حزب المؤتمر بالعمل على نقلِ مئاتٍ من الأشخاص الذين ليست لديهم بطاقات هوية لتسجيل أسمائهم في مراكز انتخابية تابعة لمناطق لا يقيمون فيها، ويبدو أن الحركة لا تريد هذه الانتخابات لأنها تعلم أنها ستخسر في الجنوب وفي الشمال. إن الأحداث التي وقعت في مناطق جنوبية مؤخرًا، تؤكد أن الحركة الشعبية تكذب وتتبنى المجرمين وتحميهم وتدافع عنهم، كما تؤكد أن هذه الحركة ما زالت تسيطر عليها الثقافة الانفصالية والعنصرية، بما لا يؤهلها لأن تكون الشريك الاستراتيجي في المرحلة الخطيرة المقبلة. قراءة مواقف الحركة وتصريحات قادتها تقود إلى أنها ربما كانت تخطط لإسقاط النظام بالقوة عبر تحالف مع كافة فصائل المعارضة المسلحة أو إحداث فوضى بالبلاد تمهيدًا لتدخل أجنبيّ وفق مبررات مختلفة لإسقاط النظام، أو التخطيط لإفشال اتفاقية "نيفاشا" والانفصال دون إجراء استفتاء، معتمدةً على الدعم الغربي اللا محدود. وإذا كانت الحركة تردّد أن السبب في تدهور العلاقة مع حزب المؤتمر الحاكم يعود إلى عدم التنفيذ الحقيقي لاتفاقية السلام، فالحدود لم ترسمْ والاستفتاء على حق تقرير مصير الجنوب على الأبواب، كما تدعي الحركة أن حكومة الخرطوم أطبقت مزيدًا من سيطرتها على دواليب الحكم وباتت تنفرد بتمرير القوانين وفرض الأمر الواقع سواء في التركيبة البرلمانية أو في إدارة الشأن التنفيذي السوداني، كما أنها ما زالت تحتفظ بالقوانين المقيّدة للحريات، هذه كلها ادعاءات لقادة الحركة، لكن المؤكد هو أن الحركة الشعبية تقاعست أيضًا عن تنفيذ الجزء الخاص بها من اتفاق السلام، فالحركة لا تودّ أن تُجرَى انتخابات لأنها تشعر بأن البساط يمكن أن يُسحب من تحتها، وبالتالي لا تجد ذات المكاسب التي وجدتها بموجب اتفاقية السلام، لذلك هي تؤخر وتماطل ولكن المؤتمر الوطني ملتزم بإجازة القوانين. الخبراء يؤكدون أنه تَمَّ تنفيذ أكثر من 90% من بنود اتفاق السلام، ولم تتبق سوى قوانين محدودة جدًّا، وهي قانون الأمن وقانون الاستفتاء والمشورة الشعبية، والذي تبقَّى لا يساوي أي شيء بالنسبة لما تَمَّ تنفيذه على الأرض، وذلك بشهادة المراقبين وبشهادة الأممالمتحدة. وإذا كان سلفاكير يرى أن دولة الوحدة ستجعل المواطن الجنوبي مواطنًا من الدرجة الثانية، فإن الواقع والحقيقة والمنطق والتاريخ يؤكدون أن وحدة الجنوب مع الشمال ستجعل المواطنين جميعًا من الدرجة الأولى، والدليل على ذلك هو ما حصلت عليه الحركة الشعبية، فهي الآن في درجة أكبر من الأولى، فهي تحكم الجنوب منفردة، وكذلك تشارك بحكم السودان بكامله بمقدار الثلث تقريبًا، وهي كذلك تنال 50% من موارد السودان، وبناءً على هذه الحقائق والمعطيات فإن الجنوبيين إن صوتوا للانفصال فإنهم لن يكونوا في الدرجة الثانية فقط كما يقول لهم سلفاكير ولكنهم سيكونون في درجة أقل من ذلك بكثير، لأن دولتهم الجديدة التي سيصوتون لها ستكون دولةً ضعيفة وقابلة للاختراق. إذا كان سلفاكير وحركته يتحدثون عن سودان جديد وعن اتفاقية جديدة، فإن الأمر يعكس فشلَه في الالتزام باتفاقية السلام، هذه الاتفاقية نصَّت على أن الجنوب له الحق في أن يتحاكم لأعرافه ولثقافاته ولدينه، ونصَّت أيضًا على أن الشمال كذلك له الحق في أن يختار العقيدة التي يتحاكم إليها، ورغم أن الحركة الشعبية وقَّعت على الاتفاق، لكن بعد مرور هذه السنوات تأتي اليوم لتتحدث عن تنازل الشماليين عن عقيدتهم وعن شريعتهم. قادة الحركة الشعبية يتحدثون الآن أيضًا عن السودان الجديد، بالرغم من أن اتفاقية السلام قد حَسمت كل ذلك، وكان حريًّا بهم أن يتحدثوا عن الالتزامات الواجبة عليهم في اتفاقية السلام وأن يلتزموا بهذه الاتفاقية، وأن يعطوا هذه الاتفاقية استحقاقاتها، وأن تتمَّ إقامة الانتخابات والاستفتاء حول تقرير المصير، لكن يبدو أن قرارهم ليس بأيديهم وإنما هو بأيدٍ أخرى تحرِّكهم كالعرائس من أجل الوصول إلى نتائج وغايات محددة. المصدر: الإسلام اليوم