على حسب ما هو متواتر في الأوساط السياسية والإعلامية الأمريكيَّة بخصوص الحرب في أفغانستان التي تأكد أنها صارت كابوسًا فعليًّا، فإن المطروح حاليًّا أمام الرئيس أوباما هو توجهان يسعى الكثيرون من المحللين إلى الجزم بأنه لا ثالث لهما، ويتعلق الأمر بالخيار بين استراتيجية إرسال مزيد من القوات أي إعادة استنساخ التجربة التي تَمَّت في العراق التي عرفت تحت مسمى "الاندفاع" وهي الاستراتيجية التي تتطلب في الحالة الأفغانية إرسال ما لا يقل عن 40 ألف جندي إضافي، مثلما يرى القائد الأعلى للقوات الأمريكيَّة هناك الجنرال ستانلي ماكريستال الذي يبدو واحدًا من أبرز المتحمسين لهذا المسلك، في مقابل استراتيجية أخرى لا ترى ضرورةً في إرسال مزيد من القوات بقدر ما تعتقد أنه يتعين "تحسين" أداء الجنود المتواجدين في الوقت الحالي الذين يقدر عددهم بنحو 68 ألف جندي وضبط تحركهم من خلال التركيز على محاربة تنظيم القاعدة، بمعنى تخفيف التركيز على ملاحقة طالبان تداركًا للهدف الأساسي الذي قرَّرت الولاياتالمتحدة لأجله قبل ثماني سنوات من الآن احتلال هذا البلد وإسقاط نظام هذه الحركة فيه، والتي أخذت بجريرة ما وقع في هجمات 11 سبتمبر، بالرغم من أنه لا شيء يدل على وقوفها خلفها، حتى وإن سلَّمنا جدلًا بأن القاعدة هي من فعلتها. مع ذلك تجهد نخب نافذة في المؤسستين السياسية والعسكرية بالولاياتالمتحدة إلى استبعاد طريق ثالثة بدأت تأخذ ملامح واضحة في خضمّ وعود التغيير التي أوصلت الرئيس أوباما إلى البيت الأبيض قبل عام من الآن، ويتعلق الأمر هنا بخيار إنهاء الاحتلال العسكري وترك أفغانستان للأفغان حتى يقرِّروا وحدَهُم الطريقة التي سوف يتعاملون وفقها مع عناصر طالبان، وحتى مع من تبقى من عناصر تنظيم القاعدة. استحالة التصعيد أمريكيًّا بدايةً فإن الاستراتيجية الأولى حال اعتُمدت، سوف ترفع مجموع عدد القوى في هذه البلاد إلى زُهاء 140 ألف جندي، أي تلك 108 ألف جندي أمريكي مضافًا إليها نحو 40 ألف جندي من باقي دول حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وبالتالي فإنه مع احتساب أساسيات مكافحة التمرد وفقًا للمعايير التي حددها الجنرال ديفيد بتريوس الذي يشغل حاليًّا منصب رئيس القيادة الأمريكيَّة الوسطى، أي أنه القائد المباشر للجنرال ماكريستال نفسه، فإن المعيار هنا هو ضرورة توفير 20 جنديًّا لكل 1000 مدني، بمعنى أن أفغانستان التي يفوق عدد سكانها 32 مليون إنسان، تتطلب لأجل ضمان استراتيجية مكافحة تمرد فعالة فيها، وجود ما لا يقل عن 640 ألف جندي، وهذا الرقم يفوق عدد الأفراد العاملين بشكل فعلي في الجيش الأمريكي، الذين يقدر عددهم بزهاء 548 ألف جندي، وهو رقم يقترب أيضًا من 749 ألف جندي، وهو إجمالي أفراد القوات المسلحة الأمريكيَّة كلها، إذا ما احتسبنا مجموع عناصر مشاة البحرية (المارينز). على هذا السياق وباعتماد معايير الجنرال بتريوس فإن ما تملكه الولاياتالمتحدة من جنود في الوقت الحالي بأفغانستان، لا يكفي إلا لتأمين احتلال العاصمة كابول التي يُقدر عدد سكانها بحوالي 3.5 مليون نسمة، أما إذا ما جرى رفع العدد إلى 140 ألف جندي من الأمريكيين والناتو فإن العدد يكفي وقتها لتأمين احتلال محافظتين أو ثلاث محافظات أخرى، كقندهار وهلمند أو هيرات على سبيل المثال، وبقاء المحافظات الثلاثين الأخرى دونما أي حدٍّ من الأمن. القسوة والوحشية لضمان الأمن والرفاهية من هنا تتضح فداحة المأزق؛ فعمليات مكافحة التمرُّد والمقاومات الشعبية -كما هي حالة حركة طالبان مثلًا- تطلبت عبر التاريخ عملًا أكثر أهمية من مجرد التفكير في تأمين العدد الكافي من الجنود، لأن الأمر سوف يتطلب حضورًا دائمًا واستعدادًا بديهيًّا لاستخدام القسوة وأساليب القمع -وحتى الوحشية- في سبيل فرض الأمن والنظام، وهذا ما كان البريطانيون يتباهون به دومًا، من خلال تجربتهم في سحق تمرد الماو ماو في كينيا بالقارة الأفريقية خلال خمسينيات القرن الماضي، إلا أن الظروف تغيَّرت الآن، خصوصًا وأن المقاومات الشعبية ليست مجرد ثوارٍ يجري قمعُهُم، بل هي مطالب مشروعة مبنيَّة على أسس متينة لا يمكن زحزحتُها، وهذا ما أكَّدته تجربة الفرنسيين في الجزائر ومن بعدهم تجربة الأمريكيين في فيتنام قبل أن يعيشها السوفييت في أفغانستان نفسها؛ إذ إنه من البديهي في التحليل الاستراتيجي توقع أن تزداد المقاومة ويحتدّ عنفوانها حينما ترتفع وتيرة التوحش من قِبل المحتلين في قمعها أو بكلام آخر: إن الاحتلال الأمريكي والأطلسي المزدوج في تلك البلاد يدرك أنه سوف يواجه إذكاءً شديدًا للتمرد وسوف يحقق بالضبط ما سعى إلى تفاديه. الرأي العام الأمريكي إذ يعادي الحرب من ناحيةٍ أخرى فإن توازن القوات المحتلة في أي بلد يتطلب وجود تجانس مواقف ضروري في بلدانها، وهذا ما لم يتمكن الأمريكيُّون من تأمينه إذن، وعلى الرغم من أن موقف هؤلاء كان متناغماً مع مبدأ ضرب أفغانستان بُعيد هجمات سبتمبر نتيجةَ تلك الحالة العاطفية القوية التي سادت الولاياتالمتحدة وقتذاك، إلا أن موقف الرأي العام لصالح الحرب والاحتلال بدأ في التراجع منذ ذلك الحين قبل أن تحلّ الأزمة المالية الحالية وتضرب ذلك الموقف في مقتل، بدليل أن استطلاعات الرأي التي تجريها المؤسسات البحثية في أمريكا تشير حاليًّا إلى تردٍّ خطير لشعبية الرئيس أوباما بُعيد أقلّ من عامٍ من توليه شئون المكتب البيضاوي، أما الاستطلاع الذي أجرته محطة سي إن إن حول الحرب في أفغانستان قبل أيام قليلة فلقد أكد أن 58% من الأمريكيين يؤيدون مبدأ الانسحاب من هناك بشكلٍ تامّ. على هذا الأساس يرى عدد متزايدٌ من المحللين أن الطريق الثانية أمام الرئيس أوباما هي الأرجح والأسلم أيضًا، وهي تلك التي تُنادي بضرورة التركيز فقط على القاعدة وعدم الانجرار إلى حرب استنزاف مع حركة طالبان، وهو التفكير الذي يعتبر نائب الرئيس جو بايدن أبرز الداعين إليه، آخذًا في الصعود فهذا السيناتور الخبير بالقضايا الدولية يعترف علنًا أن هنالك فروقًا جوهرية بين طالبان والقاعدة "بالرغم من احتمال وجود بعض العناصر من طالبان مع القاعدة" إلا أن "هنالك تنافسًا جديًّا على السلطة بين الحركة والتنظيم" وعلى الرغم من أن هذا التفسير الأخير غير مؤكد إلا أن هنالك فعلًا مَن يؤمن به ويرى أن تنظيم أسامة بن لادن يسعى إلى تولي شئون القيادة السياسية في أفغانستان، ولذلك يحرص أنصار هذا التفكير على الدعوة إلى التركيز على القاعدة على اعتبار أنها التهديد الفعلي لأمن الولاياتالمتحدة وترك طالبان لأنها لا تشكل تهديدًا مباشرًا لواشنطن بمعنى أنه من مصلحة أمريكا فقط ألا تعود أفغانستان ملجأً آمنًا للتنظيم وترك طالبان للحكومة الأفغانية، حتى وإن كانت هذه الأخيرة غير قادرة على القضاء التامّ عليها. خيار الأفغنة واستنتساخ سياسة الفتنمة ثم إن هذه الاستراتيجية تعترف أيضًا أن التهديد الذي باتت القاعدة تمثِّله في أفغانستان نفسها لا يمكن قياسُه بوضعها الذي كانت عليه قبل الغزو الأمريكي، ولا يعني هذا الكلام بالضرورة أن تهديد القاعدة للأمن الأمريكي قد انتهى بقدر ما يعني أن الحرب في أفغانستان فقدت مبرراتها الأخلاقية التي قامت عليها أصلا، وإن كان من العسير افتراض وجود تلك الأخلاقيات بالنظر إلى طبيعة الذهنيات التي باتت تحكم الحروب الأمريكيَّة في عصر الحملات الاستباقية، إلا أن المشكلة الأكبر في مواجهة كل الاستراتيجيات الأمريكيَّة القائمة منها والمحتملة هو أنها تعني استمرار الاحتلال وما يعنيه هذا من مستلزمات لم تعدْ الموازنة الفيدرالية في واشنطن قادرةً على تحمُّل تبعاتها، أي أن العملية برمتها محكوم عليها بالفشل، حتى وإن سلَّمنا أنه في الإمكان تحقيق انتصاراتٍ سياسية تكتيكية؛ لأن الخسارة سوف تكون بالميزان الاستراتيجي، وفي ظلّ أوضاع اقتصادية كارثية ذات آثار تمتد لعقود طويلة تفوق تلك التي سببتها انتكاسة الجنود الأمريكان في فيتنام، حتى بعد أن آثر الأمريكيُّون وقتذاك الانسحاب المرحليّ وترك الفيتناميين يتقاتلون فيما بينهم. أمريكا بين مطالب الناخبين ومصالح النافذين بالإضافة إلى كل ما سبق، لا يجدر بنا أيضًا إغفال عنصر في غاية الأهمية، وهو ذلك المتعلق بكون وجود القوات الأجنبية من أطلسية وأمريكيَّة على السواء سوف يواصل توليد مزيد من الاستياء لدى عموم الشعب الأفغاني على اختلاف توجهاته، وهذا وحدَهُ كفيل بجعل عملية تجنيد المسلحين واستهداف المحتلين، مطلبًا في غاية اليُسر، وبالتالي عودة الأوضاع -وفق هذا المنوال- إلى ما كانت عليه قبل وقوع هجمات سبتمبر حينما كانت أفغانستان ملجأً لكل الذين يحلمون بمقارعة أمريكا وحلفائها، ومن هنا فإنه مطلوب من الأمريكيين في هذا الظرف تحديدًا فهمُ سياق الأمور والتعلم من الأخطاء إذا ما كانوا حريصين فعلًا على مكانة بلادهم في رأس الأمم، أما إن كان العكس وهذا ما يبدو حتى الساعة، بدليل ما صرح به رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيش الأمريكي الجنرال جورج كيسي في لقاءٍ له مع قناة إن بي سي هذا الأحد، بشأن "ضرورة إرسال مزيد من القوات" في إشارة واضحة إلى أن القرار السياسي والعسكري الأمريكي ما يزال بيدِ اللوبي الصناعي والمالي، فإن مصيرهم لن يكون في أحسن الأحوال أفضل من مصير السوفييت أو البريطانيين قبلهم. المصدر: الإسلام اليوم