قليل منّا من يتذكر أن الوحدة بين مصر وسوريا ولدت يوم 22 فبراير 1958م فكانت باكورة محاولات الوحدة العربية في القرن الميلادي الماضي، تلتها محاولات شملت العراق واليمن والإمارات العربية والأردن والسودان وليبيا والجزائر والمغرب تعبيرًا عن رغبة الشعوب في إقامة كيان واحد يجمعهم في عصر التكتلات العملاقة، ورغم أن تلك المحاولات لم يكتب لها الاستمرار سوى بين الإمارات العربية المتحدة وبين شطري اليمن إلا أن هذا لم يفت في عضد الشعوب العربية، ولا في رغبتها في الاتحاد قافزين فوق النعرات التي تظهر بين الحين والآخر لتجزئة القطر الواحد، والتي لم تنجح إلا في حالة انفصال مصر عن السودان عام 1956م وتقسيم السودان إلى شطرين عام 2011م، ولتفقد العربية مساحة استخدام في دولة جنوب السودان لصالح لغة المحتل القديم الإنجليزية. قضية الوحدة كما تبدو على الصعيد الشعبى قضية مصير لجميع الشعوب العربية وإن لم تنل الاهتمام الكافي من قبل الحكام والحكومات العربية، ولا يرجع السبب فى ذلك إلا إلى قصر نظر تلك الأنظمة التي لا تراعى الامتداد الحضاري للأمة بجميع مكوناته الثقافية والدينية والاجتماعية والذى يجعل تجزئة الوطن العربي جريمة بل سبة فى جبيننا جميعًا كعرب. لا أعتقد أن هناك عربيًا لا يتعاطف مع المشهد الحالي في مصر وفي سوريا وفى بقية دول الانتفاضة العربية، بل ويتمنى أن تزدهر دوله وجميعها دول تنبض بالثروات البشرية عدا ليبيا التي توفرت لها بالإضافة ثروات طبيعية. إن النظر إلى المشهد السوري والتحالفات الدولية تجاهه تعيد إلى الذاكرة خرائط تقسيم الوطن على أيدى فرنساوإنجلترا وروسيا القيصرية. والعجيب أن العرب يقفون أمام تلك الحقيقة التاريخية بلا حراك كى لا يستفيدوا منها بل ويتشاغلون بمناوشات داخلية تبعدهم عن القضية الكبرى وهى التنمية والتى يمكنها أن تستوعب مختلف مكنونات أقطارنا جميعها بشرية كانت أم مادية. لقد تشاغلنا عن قضايا الوحدة العربية وبتنا أسرى محاولات التقسيم الداخلى فها هي الصيحات تتنادى لتقسيم مصر وتقسيم ليبيا وتقسيم اليمن وتقسيم سوريا وتقسيم العراق وغيرها من الأقطار العربية. الأمر من هذا المنطلق بات غير قابل للمنطق إلا إذا أدركنا أن عنصر الخيانة يلعب دوره فى بعض أعمالنا على مستوى مختلف الأصعدة لدرجة أن أحد ملوك العرب ظل لمدة عشرين عامًا على قائمة من يحصلون على أموال من المخابرات المركزية الأمريكية! الوجه الآخر للقضية يبدو فى قصر النظر واستبعاد البعد التاريخي من مجال الرؤية مما يظن معه البعض أن المستقبل يمكن أن يتمحور حوله بمفرده وهو أمر محال فى الحاضر كما في الماضي. التاريخ لا يحتفظ إلا بالأعلام وبالأمم القوية التي يمكن أن تضيف لمسيرة البشرية سلبًا أم إيجابًا بصورة كبيرة. هذه الصورة تعكسها فى نفس الوقت المؤشرات التنموية والتحالفات البينية والتي إن غابت حلت محلها قوى الهيمنة الخارجية حسب نظرية ملء الفراغ التي تبناها الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية. لقد قاومت الشعوب العربية تلك السياسة بعدة أساليب منها الوحدة بين مصر وسوريا وإن تدخلت الأطماع الغربية في تلك المحاولات عن طريق عدة أطروحات منها مشروع الهلال الخصيب ومشروع سوريا الكبرى ومشروع حلف بغداد ورغم سقوط تلك المشاريع إلا أن قادة أغلب الدول العربية استطاعوا تجذير عوامل الفرقة بدلاً من استنفار جهود التنمية لكامل المنطقة بل ولم يستوعبوا الدرس فدخلوا فى الشراكة اليورومتوسطية دونما تفكير فيما نملك وفيما تحت أيدينا. إن الاتهام بالخيانة أمر غير مقبول إلا بدليل كما فى حالة الخيانة العربية فى فلسطين ولكن الأمر المؤكد أن جل قادتنا تنقصهم البصيرة والرؤية القومية للأمة جميعها وباتوا مترددين حيال أية محاولة للإصلاح على أحسن تقدير. والأدلة على ذلك عديدة كشفتها ملفات فساد من سقط من حكام الدول العربية خلال العامين الماضيين. الأمر العجيب فى كل تلك المآسى أن قدرات شعوبنا أكبر بكثير من حجم الفساد الحادث وأننا يمكننا أن ننهض دائمًا ولهذا كان الفساد ممنهجًا لإطالة فترة السبات ولا يسعفنى تفكيرى لمعرفة سبب ركون حكامنا إلى الأرض مع أن مجد الشعوب دائمًا ما ينسب لحكامها! قضية الوحدة العربية لا تنفك عن قضية التنمية التي لا تنفصل عن الإيمان بالذات وتفعيل قدراتها. ومن العجيب أننا فى مسيرة الوحدة العربية نتناسى أن اللغة العربية إحدى أهم عناصرها فترانا نتحدث عن الوحدة وننحى العربية من حياتنا العلمية فى أغلب أقطارنا. طيلة قرن من الزمان لم تكن العربية بوتقة المجتمع جميعه إلا فى سوريا والعراق، وعدا ذلك تحاول العربية فى جميع أقطارنا أن تكون لغة المجتمع العلمي بدرجات متفاوتة. فى مصر تم تنحية العربية عن الحياة العلمية بإبعادها عن مجال التعليم منذ الاحتلال الإنجليزي لمصر، وفى بقية الدول العربية حدث نفس الشيء منذ احتلالها. ورغم ذلك تكتسب مسيرة تعريب التعليم، لتصبح العربية لغة المجتمع جميعه بمختلف طوائفه وتخصصاته، فى جميع أقطارنا أرضًا جديدة كل يوم رغم النكسات التى تصيبها بفعل الاحتلال العسكري والثقافي لبعض أقطارنا، توجت بالنص فى المادة الثانية عشر من الدستور المصري على تعريب التعليم لتعود للعربية منزلتها في الحياة العلمية ومن ثَمَّ فى المجتمع ككل. تأكيدًا على ما جاء فى المادة الثانية من نفس الدستور ومن الدساتير المصرية السابقة من أن العربية هى لغة الدولة والذى هو ديدن جميع الدساتير العربية ولكن للأسف بلا تفعيل حقيقي. وفى هذا السياق يجب أن نشير إلى أن قوانين التعليم الجامعي وقبل الجامعي في مختلف الدول العربية تنص على أن التعليم باللغة العربية ولكن بدون تفعيل وكأننا لا ندرك ارتباط التنمية بلغة التعليم والثقافة. الأمر العجيب أننا في هذه المسيرة نتشايع دومًا للغة المحتل السابق أو الحالي فنتشايع للإنجليزية فى الدول التي احتلتها إنجلترا وللفرنسية فيمن احتلته فرنسا! هذه الصورة القاتمة للاستلاب الثقافي دعت العديد من العلماء والمفكرين إلى دراسة الظاهرة والتأكيد على ارتباط اللغة القومية بالتنمية وبالهوية فجاء إعلان الرياض الصادر عن القمة العربية مارس 2007م بالنص على تدشين حركة ترجمة واسعة من اللغة العربية وإليها، وتعزيز حضور اللغة العربية فى جميع الميادين بما فى ذلك وسائل الاتصال والإعلام والإنترنت، وفى مجالات العلوم والتقنية. ثم جاء إعلان دمشق الصادر عن القمة العربية مارس 2008م بالنص على إيلاء اللغة العربية اهتمامًا ورعاية خاصة باعتبارها وعاءً للفكر والثقافة العربية، ولارتباطها بتاريخنا وثقافتنا وهويتنا، لتكون مواكبة للتطور العلمي والمعرفي في عصر العولمة والمعلومات ولتصبح أداة تحديث في وجه محاولات التغريب والتشويه التي تتعرض لها ثقافتنا العربية. ثم جاء إعلان سرت الصادر عن القمة العربية مارس 2010م بالنص على التأكيد على مواصلة تطوير التربية والتعليم والارتقاء بالمؤسسات التعليمية وتأهيلها بما يكفل أداء رسالتها بكفاءة وفاعلية واقتدار، ومواصلة تنفيذ خطة تطوير التعليم فى الوطن العربي، والاهتمام باللغة العربية وترسيخها باعتبارها وعاءً الفكر والثقافة العربية والحاضنة للتراث والثقافة والهوية. ورغم تلك الجهود السياسية التي تعكس الوعي الجمعي العربي يأبى بعض قادة التنمية المجتمعية بل وبعض السياسيين إلا الركون إلى الأرض وإعاقة مسيرة تفعيل اللغة القومية فى المجتمع من خلال التعليم وهو ازدواجية عجيبة لا نجدها إلا فى عالمنا العربي الذي لم يدرك أن جميع الحضارات القديمة تنهض لتشارك فى مسيرة التقدم العالمي إلا حضارتنا العربية التي امتدت لعدة قرون حاملة مشعل الحضارة للعالم فى أطول حضارة علمية عرفها التاريخ. ورغم الجهد السياسي المبذول فى مضمار إعادة العربية إلى وجودها المجتمعي الحقيقي إلا أن جهود التنمية ونظرة المسئولين للقضية تقصر عن الفعل فنراهم يتشايعون للتعليم الأجنبي داخل أقطارنا العربية وهو ما يشكل نظرة مجتمعية غير صائبة تجاه تعليمنا باللغة العربية مما يزيد من إهمال هذا النوع من التعليم وتدور العجلة لنرى جل أبناء المسئولين من خريجي تعليمٍ غير عربي في بلاد العرب وهى مأساة حقيقية تجسد ازدواجية الفكر الذي لا يعرفه مجتمعنا العربي الأصيل! أ.د. محمد يونس الحملاوى أستاذ هندسة الحاسبات، كلية الهندسة، جامعة الأزهر [email protected]