شهد العالم علي طول التاريخ الإنساني حضارات شتي و ثقافات متعددة ، فلم ير صفحات أبيض من الصفحات التي سطرها المسلمون في علاقتهم بغيرهم : فالإغريق . لم يعرفوا أية حقوق لغير الرعايا اليونانين ، الذين يشاركونهم في الدين و اللغة و العادات....بل و كانوا يعتبرون كل من عداهم برابرة، لا تطبق عليهم أية قواعد قانونية . من تلك التي تطبق علي اليونانيين ، و كان الفكر السائد آ نذاك " أن الحرب هي الحالة الطبيعية في العلاقة بين المجموعات السياسية المختلفة " و علي هذا نجد القادة اليونايين يتصرفون في البرابرة بما يشاءون !! أما الرومان ، فقد قسموا الناس إلي أصناف ثلاثة : الرومان ، و المعاهدون و سائر العالمين ، و كانوا يطلقون علي الأجنبي " العدو المبين " أما الهنود ، فقد قسموا الناس إلي طبقات أربع : " البراهمة " و هم أهل الدين ، و " التشتريه " و هم أهل السيف ، و " الديشة " و هم أهل الحرف و التجار ، و " الشودرة " و هم الخدم . و علي هذا يصبح الشودرة هم طبقة الأنجاس الذين لا تحميهم أية قوانين ، و ليست لهم أية حقوق في السلم أو في الحرب 0 أما اليهود ، فإنهم لا يتقيدون بأية قيود قانونية أو أخلاقية تجاه كل من عداهم ، و الذين أسموهم بالأميين . حيث تتغلب الاستباحة و يتم اهدار الحقوق ، فضلا عن إعمال قاعدة أنهم شعب الله المختار ، و أن الجميع خدم لهم !! و برغم أن التوراة قد حرمت الربا عليهم ، إلا أنهم حرفوا أحكامها بما يجعل التحريم متعلقا بالتعامل مع الاسرائيليين ، أما من عداهم . فلا حرمة لأموالهم و لا عصمة ، و علي هذا نجد في التلمود" اقتل الصالح من غير الاسرائيليين " و في ضوء ذلك نجد أجد حكمائهم المعاصرين يقول " إن الحرب ضرورة حيوية و ما يجب علينا - فقط - هو التفكير في كيفية القيام بها . و لذلك أقول : أفضل غير اليهودي اقتلوه "....كما يعتقد اليهود أنهم و حدهم خلقوا من نطفة مقدسة ، خلافا لنطفة الحيوان التي خلقت منها بقيةالبشرية !! أما الصليبيون . فقد رأوا كل الآخرين برابرة لا يخضعون لأية قواعد قانونية أو أخلاقية . بل كان رجال الدين يحرضون علي تفعيل هذا التصور المزري ، فيقول البابا تولا الرابع : " إن الغدر اثم . و لكن الوفاء مع المسلمين أكبر إثما "....بل و لما ظهر المذهب البروتستانتي في أوربا في القرن السادس عشر قاومته الكنيسة الكاثوليكية ، و شهدت أوربا مذابح مروعة علي اثر ذلك و لعل أهمها مذبحة باريس عام 1572م و التي قام فيها الكاثوليك باستضافة البروتستانت للتقريب بين وجهات النظر، فلما ناموا ليلا قتلوهم جميعا . و جرت دمائهم بشوارع باريس . و قام البابا " شارل التاسع " بتهنئة ملك فرنسا علي هذه المذبحة !! * * فإذا انتقلنا من هذه الصور البشعة و المشاهد المقززة لنلقي نظرة و لو خاطفة علي تعامل المسلمين مع غيرهم ، لرأينا الفرق الشاسع و المسافات البعيدة بين ثقافتنا و ثقافتهم ....بين فقهنا و فقههم : فهذا نبي الله الأكرم - صلي الله عليه و سلم - يفي بعهده مع المشركين الذين آذوه و حاربوه و أخرجوه من داره و وطنه ، برغم أن بعضهم قد غدر بالعهد....و برغم حاجته الماسة للعدد في أول الدعوة 0 يقول أبو رافع : بعثتني قريش إلي النبي - صلي الله علية و سلم - فلما رأيته و قع في قلبي الاسلام . فقلت : يارسول الله لا أرجع إليهم ( يريد أن يلحق بالمسلمين ) فقال له النبي - صلي الله علية و سلم - إني لا أخيس بالعهد ( أي لا أنقضه أو أخونه ) و لا أجبس البرد ( أي الرسل ) و لكن ارجع إليهم فإن كان في قلبك الذي فيه الآن فارجع ( أي ارجع إلينا حين لا تكون رسولا لهم ) فلا ينبغي أن يغيب عن ذوي البصائر : أن الذي منع الرسول - صلي الله عليه و سلم - من استخدام هذا الموقف السياسي الكبير ، في إضعاف موقف المشركين و لو معنويا ، هو الوفاء بالوعد ، و الالتزام بالعهد و لو مع خصوم العقيدة و أهل الحرب 0 * * و لما كان سهيل بن عمرو يفاوض النبي - صلي الله علية و سلم - في صلح الحديبية ، ولم يكن قد وقع الاتفاق بعد . جاء أبو جندل و قد فر من قريش ، فلما رآه سهيل قام و أخذ تلابيبه و قال : يا محمد قد لجت القضية بيني و بينك ، فقال النبي - صلي الله علية و سلم - صدقت . فقال أبو جندل : يا معشر المسلمين أأرد إلي المشركين يفتنوني في ديني. فلم يغن عنه ذلك شيئا ، و رده رسول الله وفقا للشروط التي اتفق عليها ، و إن لم يكن قد و قع الإتفاق بعد 0 فبرغم أن موقف أبو جندل و قولته مما يهز المشاعر و يحرض الشباب إلا أنه لم يخرج الرسول - صلي الله علية و سلم ، و المسلمين عن التزامهم بكلمتهم مع عدوهم ، فقامت قيادة النبي و حكمته علي ضبط المشاعر و العواطف حتي لا تخل بالتزام المسلمين مع أشد أعدائهم و ألد خصومهم آنذاك 0 * * وهذا حذيفة بن اليمان يقول : ما منعني أن أشهد بدرا إلا أنني خرجت و " أبو الحسيل " . ( يعني الهجرة إلي المدينة ) . فأخذنا كفار قريش فقالوا : إنكم تريدون محمدا . فقلنا : ما نريد إلا المدينة . فأخذوا منا عهد الله و ميثاقه لننطلق إلي المدينة لا نقاتل معه ( أي مع النبي - صلي الله علية و سلم ) فأتينا رسول الله فأخبرناه الخبر ، فقال : انصرفا نفي بعهدهم و نستعين بالله عليهم 0 فبرغم أنهما قد أعطيا العهد لينجيا بنفسيهما من القتل أو الكفر ، إلا أن الرسول - صلي الله علية وسلم - قد عده عهدا صحيحا يوجب التزاما ماضيا ، و هو في أشد الحاجة في بدر للعدد....إنها تقوي الله التي ملأت القلوب ، و الأمانة في الألتزام و العهد حتي لو كان ذلك مع أعداء لا زالوا يحاربون الله و رسوله و المؤمنين . بل و يمنع هذين الصحابيين من الخروج للقتال يوم بدر 0 هذا هو المنهج الذي ربي عليه النبي- صلي الله علية و سلم - أصحابه ، فلم يكن أحدا من المسلمين المستضعفين و المحاربين في عقيدتهم يستسيغ أن يقيد نفسه و يلزمها لصالح المشركين المناقضين لكل قواعد الدين و أساسيات العقيدة . فضلا عن سعيهم الدءوب لأسقاط دولة المسلمين الوليدة بالمدينة ، كما يصدون الناس عن الدخول في هذا الدين الجديد ، بل و يفتنون من وقع من المسلمين تحت أيديهم عن دينه 0 ولم يكن ذلك من النبي - صلي الله علية وسلم ، إلا تشريعا لازما للأمة من بعده . فلم تكن تتحرك خلجات نفسه - صلي الله علية و سلم - إلا لله، و لم يكن يصدر قرارا إلا بأمر الله( إن هو إلا وحي يوحي ) لهذا ظل الاسلام و سيظل أكرم و أشرف دين علم أتباعه : كيف يتعاملون مع غيرهم . من خلال أعظم قوانين و قواعد عرفتها البشرية