صدق محمد حسنين هيكل في قوله أنه ما أن يكتب حتى تهب فرق " الكاراتيه " لتوجه إليه ضربات هناك وهناك ،وأحمد الله أننى لست فردا من هذه الفرق ، ذلك أننى أحمل لهذا الرجل من الود والتقدير ما لا يتصوره أحد ،ويكفى أننى أقرأ له من قبل ثورة يوليو حتى الآن منذ أن كان يكتب في صحف أخبار اليوم ، وكذلك قرأت له كتابه الأول ( إيران فوق بركان ) الذى كان أول كتبه ، ، أى ما يقرب من ستين عاما ، حتى لأستطيع القول بأن شيئا مما كتب لم يفلت منى ،ومن ثم فهو مُشَكل لجزء كبير من عقلى ،وخاصة من الناحية السياسية ، ومعظم ما يكتبه وخاصة تعليقا على مواقف معاصرة ، أجد كأنه يترجم ما أفكر فيه حقا، باستثناءات قليلة ، مثل ما أشير إليه اليوم 0 ويكفى تدليلا عن قدر هذا الرجل ، طوال هذه الأعوام الممتدة ، أنه ما أن يكتب أو يصرح بموقفه من بعض القضايا المعاصرة ، حتى تنهمر التعليقات وتفيض أنهر الصحف ، بما له وما عليه ،وما يُطَمئن الإنسان حقا ، هو أننا نعرف جيدا دوافع هؤلاء الذين يهاجمونه في صحف الدولة ،وبل إن واحدا مثلى ، يعتبر هذا وسام تقدير على صدر هيكل ، فهم لا يستطيعون أن يقولوا إلا شجبا ولا يستطيعون أن يكتبوا إلا هجوما ، فذلك هو جواز المرور إلى الاستمرار في مواقعهم 0 وما من مرة يُسأل هيكل عن الإخوان المسلمين ، إلا ويغمز ويلمز ،وأحيانا بطريق مباشر ،ولا يُتوقّع منه غير هذا ، خاصة وأنه فيلسوف نظام أخذ على عاتقه مهمة القضاء على الإخوان والتنكيل بهم بصورة بشعة ، حتى يكاد الإنسان ألا يصدق ، عندما يسمع ولو أمثلة ، أن هناك آدميين ، يملكون قلوبا وهم يفعلون ما فعلوه ،وهو حر بطبيعة الحال أن يحب هذا الفريق ويكره ذاك ، فلا نناقشه في هذا ،ولكن خطورة ما يقوله هيكل أنه من فرط الثقة في حديثه ، قد يمضى إلى من لا يعرف فيصدقه ،وخاصة إذا كان الأمر يتعلق بالحديث عن " أحوال " و "وقائع " ،وليس مجرد إبداء رأى وتفسير 0 وعلى سبيل المثال ، فقد ركز حديثه الأخير مع المصرى اليوم على مؤسس الجماعة ، حسن البنا ، وقال أنه جلس معه ، وفى هذا مبالغة ، فعدة دقائق يجلسها الراحل في مكتب هيكل فى أخبار اليوم ،انتظارا لوكيل الداخلية ، بعد مقتل النقراشى الذى كان رئيسا للوزراء ، لا تكفى للحكم على الرجل 0 كذلك فقد ذكر أن حسن البنا بالفعل رجل نادر ، لكنه لم يملك فكرا و نظرية ،وأن الكتاب الوحيد له هو كتاب الدعوة والرسالة ،والحق أنه نسى كتيبا صغيرا بعنوان الرسائل الثلاث ،هو الذى يحمل فكرا ، لو خضع للتحليل والشرح والتفصيل لملأ كتابا ضخما ،و كتاب الدعوة والرسالة معظمه أقرب للممذكرات 0 بل إن البنا ، كما هو معروف ، كان يلقى حيثا منتظما عرف باسم ( حديث الثلاثاء ) كان يستغرق عدة ساعات ، فهل يتصور أحد أن الرجل يظل العديد من المرات ، يتحدث ، في كل مرة ، حديثا مسطحا ؟ من أين له إذن أن يجمع مئات الألوف من الناس حول ، بما لم يسبق لأحد أن فعل مثله ، إن لم يملك مشروعا نهضويا ،وفكرا متميزا ، فيه من عوامل الجذ الكثير؟ بل إننى لأذكر مقالا كتبه الراحل يوسف السباعى في المجلة التي كان يرأس تحريرها ( الرسالة الجديدة ) ، أيام ضرب الجماعة ، بعد محاولة اغتيال جمال عبد الناصر في أكتوبر 1954، مستهدفا الهجوم على الجماعة ، فأشار إلى أنه كان سائرا يوما في الحلمية ، حيث كان يسكن ، وفى الوقت نفسه ، كان المركز العام للجماعة ، فإذا به يرى ألوفا من الناس يتجمعون ليسمعوا حسن البنا في أحد أحاديثه ، فحدثته نفسه أن يقف ليستطلع ما يقوله البنا بحيث يجذب ألوف الناس 000كان تقديره أن يقف لدقائق ، فإذا به يقف عدة ساعات ، من شدة خاذبية حديث البنا ، حيث استنتج السباعى من هذا خطورة الرجل لأنه امتلك قدرة وكأنها سحرية ،وبالتالى يمكن أن يأخذ بأتباعه إلى مصير مجهول ! مقدمات السباعى كانت صحيحة ، لكنه انتهى إلى نتيجة لا تتسق مع المقدمات ! فبم جذب البنا الألوف كى يظلوا واقفين " متسمرين " ليسمعوا له ،وينضموا إلى دعوته ،ويتحملون في سبيلها من المشاق ما يصعب على ملايين الناس ؟ ولو أنصف هيكل لنظر بعيدا إلى خبرات التاريخ ،وهو مغرم به مثلى ، أو أنا الذى مثله ، فعندئذ سوف يجد أن التاريخ عرف فئة من الفلاسفة والعظماء لا كتب لهم ، دون أن يعنى هذا أنهم لا يملكون مشروعا ضخما للتغيير والإصلاح ،وأقرب ما نُذَكر به هيكل نفسه ، الزعيم الذى كرس حياته للوقوف إلى جواره ، جمال عبد الناصر ، فهو لم يكتب شيئا ، حيث أن الكتيب الوحيد المنسوب إليه ( فلسفة الثورة ) هو من تحرير هيكل نفسه ، ومع ذلك ، فلا يستطيع أحد أن ينكر أن عبد الناصر كان يملك مشروعا للنهضة ، بغض النظر عن الموافقة عليه أو العكس 0 بل إن الميثاق ، الذى وضعه أيضا هيكل ، أكد على أن تميز الثورة ، كمُن في أنها لم تبدأ بنظرية ، لتنزلها إلى أرض الواقع ، بل نزلت إلى أرض الواقع ، وفق بعض التوجهات العامة ، لتصيغ ، من خلال حركة هذا الواقع ،وتجربته ، نظرية وفكرا خاصا للثورة ! ومن قبل ذلك ، كان فيلسوف الإغريق الكبير ، سقراط ، لم يكتب صفحة واحدة ، لكنه يعد أبو الفلسفة الغربية ،ومن تحت عباءته خرج فلاسفة كبار عظام أبرزهم أفلاطون وأرسطو ، وخلف هو نفسه وجهة نظر وفلسفة لا يستطيع أحد أن ينكرها 0 وبغض النظر عن الموقف الهجومى من قِبَل البعض في الفترة الأخيرة من الهجوم على ما يسمونه " بالوهابية " ، فإن الشيح محمد عبد الوهاب ، قد أحدث تغييرات مذهلة على أرض شبه الجزيرة العربية ،وخارجها ،ولم يكن للرجل كتب ونظريات ! كذلك كان الشيخ السنوسى على الأرض الليبية ، صاحب دعوة ، استطاع من خلالها أن يؤثر في مئات الألوف ،ويحفز حركة مقاومة ،ويدعو إلى بناء أمة 000 إننا هنا أمام فئة ممن أسميهم " مربى أمم " 00جهدهم الأكبر ، نحو الفعل والحركة والنشاط والبناء ، بغير الوقوع في أسر " تنظير " ، يُحدث جلبة ، دون قدرة على تجاوز الأوراق والميكروفونات إلى تغيير أرض الواقع 0 ومما قاله هيكل أيضا ، ولا يتفق مع الواقع في حقيقته وفحواه ، هو القول بأن السعودية هى التي ساعدت الإخوان واحتضنتهم ،وهنا أيضا ، يؤدى عرض القضية وفق قِبلة معينة ، إلى سوء الفهم وخطأ التفسير ، فالذين ذهبوا إلى السعودية من إخوان مصر في عهد الملك عبد العزيز ، كان هربا مما حركة السجن والتشريد عام 1949التي أعقبت هجمة حكومة إبراهيم عبد الهادى ، الذى خلف النقراشى في رئاسة الوزارة والحزب السعدى 0 والذين فتحت لهم السعودية الأبواب في الخمسينيات وما بعدها ، كانوا هاربين من السجن والتشريد والتعذيب الذى اجتاح قطاعات واسعة منهم وعائلاتهم وأقاربهم وأصدقائهم بعد 1954 0 ومصر نفسها ، كان هذا ديدنها بالنسبة لكثير من الشخصيات العربية التي قادت حركات ثورية أو إصلاحية في بلادها ،وفى عام 1961 أو الذى بعده ، إذا لم تخنى الذاكرة ، احتضنت مصر فى عهد الثورة بعض الأمراء والشخصيات السعودية التي أحدثت حركة احتجاج داخل المملكة ، بل إن ملك المملكة السعودية نفسه ، الملك سعود ، احتضنته مصر ، عندما حدث تصادم بينه وبين الراحل الملك فيصل 00وهكذا 0 وأكرر هنا ما سبق أن كتبت عنه منذ فترة ، كيف أن هيكل ، عندما تحدث عن حركة المقاومة ضد الهجوم الثلاثى عام 1956 ، قال أن جميع القوى شاركت في المقاومة ما عد الإخوان المسلمين ، فالذى يسمع هذا من الذين لم يعيشوا الفترة ، لابد أن يشعروا باستياء نحو الجماعة ، لكن هيكل ، في بعض الأحيان يشير إلى جزء من الحقيقة ، مغفلا جزءا آخر ، مما يمكنه من توجيه القارئ أو السامع إلى الاتجاه الذى يريد ، أما هذا الجزء الذى لم يقله ، فهو أن الإخوان في تلك الفترة كانوا في السجون والمعتقلات ، فهل يصح توجيه اللوم لهم لأنهم لم يشاركوا في المقاومة ؟ وهكذا ، نجد الكاتب الكبير ،والصحفى العظيم ، يُخرج من المعلومات – أحيانا – وفقا لتحيزات خاصة به -وهى من حقه تماما - مما " يُلَوّن " الحقيقة فتبدو على غير ما هى بالفعل000إنها النفس البشرية ،التي توقع التفكير أحيانا في أسر المشاعر ، إن سلبا أو إيجابا ! [email protected]