إعلان حالة الطوارئ فى محافظات القناة الثلاثة، والدعوة لحوار وطنى فضفاض عام غير مجد وغير محدد القضايا وغير ملزم - كما قالت الرئاسة على الحوار الذى قبله - تجسيد عملى لسياسة الهروب إلى الأمام، ولم تُنج تلك السياسة نظام حكم اتبعها من قبل حتى تنجى نظام مرسي. البلد فى حالة أزمة حقيقية (دعك من الذى يصور لك أن الحياة بقى لونها بمبي، وأن الأمور تتحسن وتتحسن، وأن أنهار السمن والعسل القطرية فى الطريق، وأن مشروع القناة سيحول مصر إلى باريس)، والأزمات كاشفة (وليست منشئة)، لحجم الخلل الإدارى والسياسي، وحجم التخبط الذى تُدار به الأمور، وفداحة تقريب أهل الثقة على أهل الكفاءة والخبرة، وتوسيد الأمر إلى غير أهله. البلد فى حالة أزمة حقيقية وليست هناك مخارج جادة لأن المعارك السياسية فى مصر مضروبة فى صفر كبير، فمن يملك السلطة وقسم كبير من الشارع يسير فى اتجاه، ومن يملك المعارضة (ولو نظريًا) ويمنح إلى حد كبير شيئاً من الشرعية وقدرًا من الاستقرار يسير فى اتجاه مختلف، وليست هناك قوى سياسية حقيقية تملك جزءًا من السياسة وقدرا من الشارع لتوازن ذلك الاستقطاب الحاد وتعمل على إعادة العقلانية إلى المشهد السياسى فى بر مصر، (كنت أتمنى أن يكون تيار مصر القوية وحزب التيار المصرى هما الذان يشكلان هذا المعادل لكسر حدة الاستقطاب، إنما ليس كل ما يتمناه المرء يدركه). البلد فى حالة أزمة حقيقية وليست ثمة حلول وسط تضمن استقرار البلد وتضمن بقاء الرئيس مرسى إلى نهاية مدته، وتضمن كذلك أجواءً مناسبة لإجراء الانتخابات البرلمانية. البلد فى حالة أزمة حقيقية وكل طرف من أطراف المعادلة السياسية يصعد فى حركته وخطابه بغية تحقيق مكاسب سياسية أو تحقيق انتصار بالضربة القاضية، والضربة القاضية فى المعارك السياسية أحد الأوهام الكبرى، ففى معارك المدن وحروب الشوارع ليس هناك غالب ولا مغلوب، إنما الكل خسران حتى من يتوهم أنه قام بإلغاء الخصم وإخراجه من الساحة. ما يحدث فى مصر لن يخرج منه أحد منتصرًا. البلد فى حالة أزمة حقيقية ولابد من الاعتراف أن إدارة التنظيمات السرية تحت الأرض تختلف اختلافاً جذريًا عن إدارة الدول وتسيير مؤسساتها. لن تصلح سياسة الهروب إلى الأمام لا من النظام ولا من المعارضة لأنها تتجاهل أصول المشكلة وجذورها وتتعامى عن مركباتها وتحاول أن تقفز عليها فى محاولة وهمية للانطلاق إلى الأمام. والحقيقة أنها تنطلق للأمام نظريًا مستصحبة كل تداعيات الأزمة ومكوناتها بعد أن تكون قد زادها مرور الوقت غلياناً وتصبح عسيرة الحل إن لم تكن مستحيلة. البلد فى حالة أزمة حقيقية وليس هناك مشروع: لا عند نظام مرسى ولا عند جبهة الإنقاذ هذه هى الحقيقة المرة التى يجب أن يعترف بها الجميع. لن تجدى سياسة الهروب إلى الأمام، لا للنظام ولا للمعارضة، لم تجد فى إنقاذ أى نظام سياسى من السقوط أو توصيل أى معارضة إلى الحكم، بل هى ما تعجل بسقوط النظم وتبعد أكثر المعارضة عن الحكم، لأنها لا تقدم حلولاً للناس ولا تساهم فى تخفيف حدة الاحتقان بل تعمل على تصاعده. ما يحدث فى مصر هو نزف مستمر للشرعية (شرعية النظام وشرعية المعارضة) ولا بد من البحث عن حلول: حلول تتجاوز الاستقطاب، وتتجاوز التصعيد. ملاحظة أخيرة رغم اختلافى الكبير مع منهج إدارة البلد الحالى ومن ورائه (حزبًا وجماعة) إلا أننى أرفض بشدة أى محاولات لإسقاط الرئيس محمد مرسى باعتباره رئيسًا شرعيا للبلاد، وأرفض كذلك أى دعوات مدخولة لانتخابات رئاسية مبكرة، وأحسب أنها لا تحمل خيرًا للبلاد، مع التأكيد أنه إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، أو زادت سوءًا لا أدرى ماذا سيكون الرأى مستقبلاً، وهذا من الأمانة العلمية والدقة الواجبة فى مثل هذه الظروف. آخر كلام: الدول لا تتلاشى ولا تنهار ولو ضربت بقنبلة ذرية، فليكف الجميع عن التهديد بانهيار الدولة المصرية، وليكف الجميع عن المحاولات المستمرة لبث الرعب والتخويف ونشر الفزع، ففكرة انهيار الدولة لعبة مزدوجة يلعب بها من فى الحكم لكبح جماح المعارضة (كما كان المجلس العسكرى يفعل)، ويلعب بها من فى المعارضة للتأكيد على فشل حكم الإخوان، أى أن كلاهما يوظفها فى إطار مشروعه الذاتى وليس ابتغاء مرضاة الله ولا وجه الوطن. ولعل ذلك كله من انتفاء قواعد محترمة للعمل السياسى فى بر مصر.. قواعد تحدد سقف الحركة ومساحة الاختلاف وثوابت الصراع، وكيفية تداول السلطة. قواعد تحكم تصرفات كل الفاعلين السياسيين: حكومة ومعارضة.