تتبعنا في الجزء الأول من المقال جذور النشأة وطبيعة التوجه ومواطن الاختلاف بين التيارين الإسلامي والليبرالي. وأكدنا على أن المشترك الوحيد بينهم قبل الثورة هو عدم جاهزية أي منهما وعدم اكتمال أدواته. ونقصد بها الأدوات التي تؤهله لتولي مسئولية بلد بحجم مصر. وقد غاب الاهتمام بالتفصيلات نتيجة الاعتقاد المتجذر بأن طريق الديكتاتورية الحاكمة لا زال طويلا. لذلك خلا المشروع الإسلامي من (كيف) مكتفيا (بماذا) كما خلا أو كاد من كوادر مؤهله للانتقال بالمشروع من مرحلة الدعوة إلى مرحلة الدولة. ولكن وبلا مقدمات وبدون توقع حدثت الثورة، وخلت الساحة بشكل مفاجئ من النظام الحاكم وجاءت الفرصة لتجربة المشروع الإسلامي على أرض الواقع. ورغم قناعة أغلب إن لم يكن كل فصائل التيار الإسلامي بتكامل وجاهزية مشروعهم وكوادرهم لخوض تجربة التطبيق العملي للمشروع الإسلامي بالحال التي هي عليه الآن. إلا أنه وللحق فقد تردد بعض حكماء الإخوان من حيث ضرورة توزيع العبء على جميع فصائل المجتمع لثقله الشديد. ولكن كانت الغلبة للمغامرين. وتم بالفعل قيام الإسلاميين بتصدر المشهد بأكمله. وهو ما يعني بلغة السياسة إقصاء باقي القوى المجتمعية جميعا عن نيل نصيب من (الكعكة). وبما يعني في المقابل أن تتحمل الحركة وحدها مسئولية (إصلاح البلد) وتلبية مطالب الجماهير. وهو ما يعد في هذا الظرف مغامرة غير محسوبة. ولكن وبعيدا عن الإغراق في تفصيلات معروفة للجميع فقد تم خوض التجربة، وحدثت بالفعل هزة كبيرة. نتيجة للانتقال المفاجئ من الإيديولوجي للميثودولوجي. فلم تأت حقائق الواقع مطابقة لصورتها الذهنية التي تربى عليها أغلب الإسلاميين في حلقاتهم. ومن أهم حقائق الواقع التي غابت عن المغامرين هو حجم وشراسة المعارضة المنتظرة، ومدى استعداد النخب لترك مواقعها للإسلاميين. لذلك فبمجرد تحقق الأغلبية البرلمانية للإسلاميين وبمجرد إعلان أكبر فصائل التيار الإسلامي عن نيته في خوض الانتخابات الرئاسية، سرعان ما قام النخب ومن معهم من حلفاء في القضاء وفي المجلس العسكري وفي أجهزة الدولة التنفيذية بتشغيل مفرمة كبيرة ضد التيار الإسلامي تعمل بتناغم وبتنظيم متكامل. و توجهت الآلة الإعلامية نحو هدف محدد وهو كسر قاعدة الإسلاميين ومصدر قوتهم ألا وهي ثقة الجماهير. وبالفعل نجحوا إلى حد كبير في ذلك. وعزز من نجاحهم أخطاء وممارسات غير محسوبة أتت من بعض ممن تصدر بهم الإسلاميين المشهد السياسي سواء كبرلمانيين أو متحدثين. وعند هذه اللحظة بدأنا نستشعر أن المشروع الإسلامي برمته أخذ يفقد جزء كبير من بريقه لدى جمهرة الناس. وأخذ التأييد ينصرف تدريجيا. وكانت جميع رهانات المراقبين للتجربة البرلمانية تؤكد أن الإسلاميين لن يصمدوا طويلاً ولن يجدوا التأييد الشعبي الذي يصل بهم للرئاسة. ولا أشك لحظة في أن معقد آمال التيار الإسلامي كان ينحصر عندئذ في الحصول على فرصة جديدة يتم من خلالها تدارك الأخطاء والاستفادة من تراكم الخبرة التي حدثت. مهلة زمنية لتوفيق الأوضاع ولتصحيح الأداء بعد التخلص من آثار الفقاعات القديمة والنزول للواقع بأدوات وكوادر وخطط أكثر عقلانية. وسبحان من قال (وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم) فقد جاء طوق النجاة من الخصوم أنفسهم. فالليبراليين ومن معهم لم يدركوا حقيقة المأزق الذي وضع فيه الإسلاميين أنفسهم ونقصد به التصدر الواسع للمشهد السياسي دون امتلاك أدوات أو كوادر لذلك. ولو أدركوا ذلك لكان من أسس الصراع أن يمنحوهم الوقت لاستكمال التخبط. ولكنهم على العكس لم يشاهدوا فيما يجري شيئا أكبر من مجرد معركة استحواذ. فبدءوا في توجيه ما كان يبدوا ضربات متتالية انتهت بإقصاء الإسلاميين عن البرلمان، ذلك البرلمان الذي كان يمثل للإسلاميين جرح ينزف منه التأييد الشعبي. ولكن وبحل هذا البرلمان في ذلك التوقيت حصل الإسلاميين على (قبلة الحياة) حيث تم تخفيف هذا الضغط الهائل. وصار معهم الوقت الكاف لتحسين وتطوير الأداء وتنظيم الكوادر والتخطيط للمرحلة التالية بشكل أفضل. وهو ما يتم الآن بذكاء وسرعة هائلة. ومن أهم مظاهر استيعاب متطلبات المرحلة وحسن الاستعداد وحسن الاستفادة من الدرس السابق كانت تجربة الرئاسة. حيث نجحوا بالفعل في استخدام أدوات أكثر نضجا تتمثل في الاستحواذ (الناعم) وهو ما ظهر من الفصل بين منصب الرئاسة الذي حصلوا عليه وبين التنظيم الإسلامي نفسه. مع تقديم الرئيس بصفته (رئيس لكل المصريين). وكانت أداة ذلك هي القيام بخطوة متقدمة تماما، بل ومعاكسة تماما لجميع الأعراف السياسية، ونقصد به قيام السيد الرئيس بتكوين جميع الفرق المعاونة له ومجلس وزراءه ومحافظيه من غير الفصيل ولا التيار ولا حتى الحزب الذي ينتمي إليه، بل من مختلف أطياف المجتمع. فمعنى ذلك أن التنظيم يترك مناصب هائلة التأثير كالوزير والمحافظ ونائب الرئيس ورئيس المخابرات ..الخ لباقي الفصائل المجتمعية وهو ما يعني: 1. أن المشروع الإسلامي الذي يتبناه التيار هو مشروع وطني وليس مشروع فصيل بعينه. 2. توزيع أعباء الإخفاق أو تباطؤ الأداء أينما وجد بعيدا عن المشروع أو التيار الإسلامي نفسه. 3. التأكيد على وجود جزء كبير من الكعكة متاح للجميع حال تقاربهم مع الإسلاميين مما يخفف من تحالف الخصوم. وعلى التوازي تم نفس التطور في الأداء في الجمعية التأسيسية للدستور حيث تم زيادة المساحة المخصصة لمختلف ألوان الطيف السياسي. مما خفف من الاحتقان الشديد لديهم. ولكن عند نهاية مرحلة وضع الدستور ومع اكتمال شكله وتميز بنوده. ومع خروج تصريحات لبعض قيادات في الحركة الإسلامية تؤكد بأن الانتخابات البرلمانية القادمة ستتم بتوافق وتعاون وربما تحالف بين الإسلاميين وقوى وطنية أخرى. ومع ازدياد شعبية الرئيس ورصانة أداءه وزيادة مساحة القبول الشعبي له. فقدت النخب ومن معها توازنها وبدأت النخب تدرك تلك النقلة النوعية في الأداء السياسي للتيار الإسلامي مقارنة بالعام الأول للثورة. لذلك فهم يقومون الآن بمحاولة أخيرة ولكنها تأتي في نفس السياق وهو سياق المنح المجانية. فهم بسلوكهم العدائي الحالي وبتحالفهم مع جميع الفئات المنبوذة من الجماهير من الفلول والمرشحين الخاسرين وباستخدامهم للمال السياسي بكثافة وباستخدام البلطجية وبالتطاول على الرئيس متجاهلين مشاعر الشعب الذي اختار الرئيس والذي يبجل بطبيعته موقع الرئيس. كل تلك التخبطات وهذه المعركة المفتعلة التي لا تتماس من قريب أو بعيد مع اهتمامات الجماهير جعلت الجماهير تشعر بأنهم (النخب) خصم يريد باستقرار بلدهم شرا، وجعل الإسلاميين الذين هم في حقيقتهم الأكثر تمكينا يظهرون كضحايا لفئة متجبرة. وهي الدعاية والصورة الذهنية التي كان الإسلاميين في حاجة إليها قبل الانتخابات البرلمانية. وبقدر تعاطفي الشخصي وربما تعاطف الكثيرين من أفراد الشعب مع الإسلاميين. بقدر أسفي على عدم وجود توازنات سياسية ولو نسبية تضمن تطور التجربة المصرية عامة. فأساس مشروع نهضة مصر هو الفعل لا الفاعل، وأيا من كانت له الصدارة ففي النهاية مصالح الشعب هي الغاية. ولن يحدث هذا التوازن إلا إذا توقفت النخب عن بعثرة هداياهم على الإسلاميين. وبدءوا يمارسون لعبة السياسة بأدواتها الطبيعية ومن أهمها التواصل مع الجماهير واكتساب المؤيدين والدوران مع المصالح الحقيقية للناس. ونتمنى من التيار الإسلامي الذي نعتز به أن يستكمل بناء نظريته وكوادره في الحكم على أرضية أرحب وأوسع من الأكلشيهات والتصورات المسبقة التي رددها طويلا دون أن يختبرها، والتي كادت لتودي به لولا أن تداركته رحمة من ربه. وأن يعتمد أسلوب التدرج ويقدم درء المفسدة على جلب المصلحة وان يعلم أن سلوكيات الناس واعتقاداتهم وأذواقهم لا تندرج تحت سلطان الحاكم ولكن تدخل في دائرة نشاط الداعية. وأن يعلم أن أكبر نجاح للإسلاميين في الحكم هو ألا يظهروا كإسلاميين بل كمصريين، والفارق في اعتقادي كبير جدا إذا تجاوزنا التعريف اللفظي واحترمنا حقائق الواقع الذي يستخدم الدين كفزاعة. وهو عين ما فعله السيد الرئيس مرسي حين سؤل عن تطبيق الشريعة فعرفها على الملأ بأنها تعني إتقان العمل وتوفير احتياجات الجماهير وتقوية عناصر الدولة. كما نتمنى من إخواننا أن ينتبهوا في نفس الوقت إلى حقيقة كبيرة وفرصة تاريخية هائلة وهي انه يمكن أن يقدموا نموذج عصري في الحكم الإسلامي يخرج بالمشهد من التجارب الكئيبة التي حدثت خلال العقود الماضية فتكون إضافة هائلة للتجربة الحضارية الإسلامية والعالمية. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]