كتب محمد صلاح في «الحياة» خبراً يتسم بالطرافة والفجيعة في آن «استعارة إدارة مدرسة وطلابها من أخرى لإظهار «الآثار الكريمة للمعونة الأميركية»! - 29/5/2005». وفي التفاصيل أن عضو مجلس الشعب حمدي حسن وجه طلب إحاطة إلى وزير التعليم بخصوص ما حدث في مدرسة أم القرى في الإسكندرية أثناء زيارة السيدة لورا بوش لها، حيث «تم استبدال إدارة المدرسة وطلابها بإدارة وطلاب آخرين، موضحاً أن الوزارة التي حرصت على الاحتفاء بالسيدة الأميركية الأولى أمرت المدرسين والطلاب بالبقاء في منازلهم يوم الزيارة وجهزت بدلاء لهم وأمرت إداريين ومدرسين وطلابًا من إحدى المدارس التجريبية المتميزة ليقدموا العرض». إلى هنا انتهى الشق الطريف من الخبر ليبدأ الجانب المفجع وذلك عندما يقول طلب الإحاطة «يبدو أن منظر إدارة المدرسة وتلاميذها الأصليين وهيبتهم لم تكن لتعجب السيدة الأميركية الأولى بحيث سيبدو عليهم الفقر والأنيميا، فأراد المسؤولون المصريون بدلاً من ذلك أن تشاهد إدارة وأطفالاً وتلاميذ تبدو عليهم الآثار الكريمة للمعونة الأميركية لتطوير المدارس ونظم التعليم». وينهي النائب طلب الإحاطة بطلب كشف حساب عن المنحة الأميركية وكيفية وبنود صرفها. ونحن من جانبنا نطلب من الله سبحانه وتعالى أن يحييه إلى أن يجيبوا طلبه. نحن هنا في مواجهة واقعة تنتمي لعالم الخيال والإبداع الفني بأكثر مما تنتمي لعالم الواقع المعاش. هي عمل فني بكل المقاييس لعب فيه الخيال الدور الأساس. لسنا هنا في مواجهة خطأ إداري أو قضية تزييف أو واقعة نصب، فلا أحد من كل المشتركين في هذه التمثيلية تربّح منها، بل أجزم أن ما حدث كان وراءه حس وطني عال، تحدوه رغبة قوية في حماية مصالح الوطن العليا. ولما كان هذا الخبر يؤكد أنه لم يعد هناك ما يسمى الحقيقة أو الواقع، فلا بد لي أنا أيضاً من أن أبدع في وصف تفاصيل ما حدث أثناء الزيارة، بغض النظر عن حقيقته بعد أن اتفقنا أن الحقيقة ليس لها وجود أصلاً. وصف لنا مصدر غير رسمي وغير مسؤول تفاصيل الزيارة، فقال: الشارع المؤدي إلى المدرسة كان نظيفًا وقد صُفّت الأشجار على جانبيه، والبيوت كلها مدهونة باللون الأبيض الشاهق. وعند وصول السيدة لورا كان في انتظارها فريق الموسيقى في المدرسة الذي عزف لها وغنى أغنية شهيرة لفريد الأطرش تقول كلماتها: لورا، لورا، يا لورا... يا وردة حمرا في بنورة. رحبت بها مديرة المدرسة ودعتها إلى فنجان قهوة في مكتبها• تبادلتا الحديث لدقائق عن أحوال البلد وأحوال الشرق الأوسط• تكلمت المديرة عن خبرتها السابقة في اليونيسكو، ثم تضحيتها بمرتبها الكبير لكي تأتي لتعليم أطفال مصر• لورا: لا بد من أن أهل هؤلاء التلاميذ من الأرستقراطية الغنية، هذا واضح من آثار النعمة على وجوههم وملابسهم الأنيقة. ردت المديرة: بالعكس. هم جميعاً ينتمون إلى أسر فقيرة من العمال الكادحين ولكن الله سبحانه وتعالى طرح البركة في أرزاق أولياء أمورهم.• لورا: أنا ألاحظ يا سيدتي أنك تتكلمين الإنكليزية بلهجة أهل ولاية تكساس.• المديرة: نعم أنا أعاقب هؤلاء الذين لا يتكلمون بلهجة أهل تكساس في المدرسة• هذا هو أقل ما يجب أن نفعله من أجل الولاية التي أنجبت الرئيس بوش. دخلت لورا المطبخ الذي تعد فيه السندويشات، وهي أهم بند من بنود المعونة. كل العاملين كانوا يرتدون الملابس الناصعة البياض وكأنهم في فندق خمس نجوم. أثنت على نظافة المكان• مسؤول السندويشات كان يتكلم الفرنسية بطلاقة بعد أن عمل طويلاً في فنادق سويسرا وفرنسا، اعتذر لها لعدم إجادته الإنكليزية ووعدها بأن يتحدث بها معها في زيارتها المقبلة لمصر، سألته: لماذا تركت العمل في الفنادق وفضلت أن تعمل في مدرسة ابتدائية؟ أجاب: بلدي أولى بي من الغريب. هؤلاء الأطفال سيقودون مصر يومًا ما. على الأقل في شيخوختي سأقول لنفسي، أنا الذي أطعمت هؤلاء طعامًا صحيًا نظيفًا مغذيًا، أنا الذي حافظت على المعونة الأميركية وحولتها إلى غذاء مفيد لهم. عرفت السيدة لورا أن التلاميذ يدرسون الأدب الأميركي وبطريقة مبتكرة فطلبت أن تدخل الحصة لكي ترى هذه الطريقة. في الفصل وجدت مدرسة حسناء ووجدت «طشت» (وعاء) مملوء بالمياه تسبح فيه سمكة وصياد اسكندري عجوز يجلس في ركن الفصل، قالت لها المدرسة: أثبتت الأبحاث أن وسائل الإيضاح مهمة عند دراسة الأدب أهميتها نفسها في دراسة الطبيعة والأحياء. الفكرة الأساسية في رواية إرنست همينغواي «العجوز والبحر» هي الصراع بين الرجل العجوز والسمكة. أدي السمكة وأدي العجوز وطشت الماء رمز للبحر. يالله يا عم عبده، صارع السمكة. فقفز الرجل داخل «الطشت» وأخذ يصارع السمكة بين صخب التلاميذ وصيحاتهم. تقول بعض المصادر إن السيدة بوش لم تفهم ما يحدث أمامها غير أنها ربما أقنعت نفسها بأن كل الشعوب لها خصوصيتها، وإذا كانت هذه الطريقة ستجعلهم يفهمون الأعمال الأدبية العظيمة فَلِم لا. استطاع الرجل العجوز الإمساك بالسمكة وتعالت صيحات التشجيع من التلاميذ• قالت المدرسة: هكذا يستقر في وعي التلاميذ أن العجوز انتصر على السمكة، واصطادها وباعها في السوق. فقالت لورا مندهشة: ولكنه لم يتمكن من اصطيادها• لقد أكلها منه القرش• قالت المدرسة معتذرة: الواقع أنني بحثت عن قرش فلم أجد ولا حتى في المصرف. لقد انقرضت هذه العملة. حتى قطعة الخمسة قروش المعدنية لم يعد لها وجود. إذا كنت من قرائي، فلا بد من أن تعرف أنني لست شخصًا جاداً. الضحك هو مهنتي التي أمارسها بصعوبة شديدة هذه الأيام بسبب الدخلاء على المهنة الذين يصرون إصرارًا عجيبًا على إضحاك الناس بدلاً من كتّاب الفكاهة. غير أنهم يبيعون ضحكًا مغشوشًا، هم لا يضحكوننا نحن بإظهار ما فينا من عيوب، بل يُضحكون الناس علينا وهذا هو ما أعترض عليه بشدة، أما حكاية أين ذهبت فلوس المعونة، فلا بد من أن نجد التفسير في حكاية قديمة جداً عن رجل كلما أرسل لزوجته رطلاً من اللحم لتطبخه، كانت تعطيه لصديقها، وتقول له إن القطة أكلته. وذات يوم أرسل رطلين من اللحم وعاد إلى البيت على الفور ففوجئ بها تقول له أن القطة أكلتهما لتوها، فتمالك أعصابه وأمسك بالقطة ووضعها على الميزان، كان وزنها رطلين بالضبط، فسأل زوجته في هدوء: إذا كانت هذه هي القطة، فأين اللحم؟ وإذا كانت هذه هي اللحمة، فأين القطة؟ إذا كانت هذه هي المعونة، فأين التلاميذ الأصليون؟ وإذا كان هؤلاء هم التلاميذ، فأين المعونة؟