راج في الآونة الأخيرة الحديث عن تقارب وحوار بين الحكومات الغربية وعدد من حركات الإسلام السياسي في العالم العربي وتضاربت التحليلات فيما يتعلق بأهداف الأطراف المختلفة وحدود المعلن والخفي منها. وبعيداً عن محاولة استدعاء رؤى تآمرية لماض حقيقي أو متوهم للعلاقة بين الغرب والإسلاميين كإطار تفسيري للحظة الراهنة وإطلاق تعميمات أيديولوجية حول احتمالات تطوراتها المستقبلية ربما كان من المفيد التشديد على مجموعة من النقاط الرئيسية لاستجلاء حقيقة ما يحدث. 1- تتباين مواقف الحكومات الغربية فيما يتعلق بخلفيات وشروط وأهداف الاقتراب من الحركات الإسلامية. فما زالت الإدارة الأميركية تبدو متأرجحة بين رؤية ترفض بصورة مطلقة التعامل مع الإسلاميين وأخرى ترى ضرورة فتح قنوات رسمية للحوار مع تلك التيارات التي نبذت العنف ولا تدعو إليه على نحو قد يدمجها في إطار جهود الولاياتالمتحدة لدعم الديمقراطية في الدول العربية. وتدور الآن في واشنطن رحى معركة سياسية وفكرية كبرى بين الفريقين تتداول في سياقها مقولات هي في موقع القلب من الإدراك الأميركي لعالمنا. يدفع أنصار الرؤية الرافضة وهم موزعون بين البيت الأبيض، خاصة بالقرب من نائب الرئيس تشيني، ووزارة الدفاع وبدرجة أقل في وزارة الخارجية بأن الإسلاميين لم يغيروا من نظرتهم السلبية إلى الولاياتالمتحدة وإسرائيل وليسوا في الأغلب الأعم على استعداد لإعادة التفكير في خطابهم شديد العداء تجاه الغرب وهو ما يحتم منطقي المجابهة والاحتواء حين تتعامل الإدارة الأميركية معهم. وفي خطوة تالية يؤكد المعسكر الرافض للحوار على أن التمييز بين حركات إسلامية معتدلة نبذت العنف وأخرى راديكالية معسكرة إنما هو بمثابة الركض وراء سراب مخادع وأن جل هذه القوى يتبنى رؤى للسياسة والمجتمع هي في التحليل الأخير غير ديمقراطية وغير تعددية بحكم استنادها إلى الدين كمرجعية وحيدة. يصبح لزاماً على الولاياتالمتحدة إذن أن تتبنى دعم وتمكين التيارات الليبرالية والعلمانية في الدول العربية والارتكان إليها بجانب النخب الصديقة في سياق جهود نشر الحرية والديمقراطية. أما الحديث المعلن من جانب بعض الحركات الإسلامية مثل حزب العدالة والتنمية في المغرب والإصلاح في اليمن وجماعة الأخوان المسلمين في مصر عن محورية الإصلاح السياسي والتزامهم بقواعد اللعبة الديمقراطية المتمثلة في الانتقال السلمي للسلطة عن طريق الاقتراع العام وحكم القانون والفصل بين السلطات ومدنية المؤسسات العامة فيفهم هنا على أنه مجرد محاولة خبيثة من جانب الإسلاميين لاستغلال مناخ التغيير الحالي في العالم العربي والغطاء الدولي المتوفر لخطوات الإصلاح، خاصة تنظيم انتخابات نزيهة وحرة، للقفز على الدولة والسيطرة عليها ثم الانقلاب على الإجراءات الديمقراطية تماماً مثلما فعل هتلر في ألمانيا 1933 (حقيقة تاريخية ثابتة) أو ما بدت حركة الإنقاذ الجزائرية مقدمة عليه في بداية التسعينيات (ادعاء لم يثبت). باختصار، يرى أنصار رفض التعامل مع الإسلاميين أن «نواياهم الحقيقية» لا تؤهلهم لعلاقة مع الولاياتالمتحدة وان على الأخيرة مقاومتهم بكل السبل. 2- أما المدافعون عن أهمية الانفتاح الأميركي على الإسلاميين المعتدلين، وهم ممثلون بقوة في وزارة الخارجية وعدد من مراكز الأبحاث السياسية المحافظة والليبرالية على حد سواء، فلهم قناعات مغايرة تماماً. هناك من جهة القناعة المزدوجة أن نفرا غير قليل من الحركات الإسلامية قد أنتج مراجعات حقيقية لرؤاهم للمجتمع والسياسة وتحرك في السنوات الأخيرة نحو نظرة براجماتية تحترم التعددية والمنافسة السياسية وتقبل التداول السلمي للسلطة وأن المعضلة الحقيقية التي تواجههم تتمثل في رفض نظم الحكم العربية إدماجهم في الحياة السياسية (مصر) أو سعيها المستمر لتهميشهم والحد من نفوذهم (المغرب والأردن واليمن). يأتي في مرتبة تالية التسليم بأن جهود دعم الديمقراطية في العالم العربي لا يمكن لها أن تتقدم بفاعلية من دون إشراك الإسلاميين المعتدلين وقواعدهم الشعبية الممتدة خاصةً حينما يؤخذ في الاعتبار تردد النخب الحاكمة في القيام بإصلاحات سياسية جوهرية والضعف البنيوي لتيارات المعارضة الليبرالية والعلمانية غير القادرة على ممارسة ضغوط فعالة في سبيل التحول الديمقراطي. يترتب على ذلك القول بأن على الولاياتالمتحدة، وبرغم الحواجز القيمية والأيديولوجية التي تفصل بينها وبين الإسلاميين، الدفع باتجاه إدماج الحركات المعتدلة في الحياة السياسية على نحو يخلق زخما تعدديا حقيقيا ويسمح بنشوء مراكز متباينة تتصارع على السلطة سلمياً. تتوارى خلف قناعات أنصار الحوار هذه مسلمتان أساسيتان هما; أولاً أن إدماج الإسلاميين سيسفر حتماً عن مزيد من البراجماتية والاعتدال في صفوفهم ويخفف تدريجياً من عدائهم للغرب وثانياً أن دعم الديمقراطية في العالم العربي قد يعني في نهاية الأمر قبول وصول أحزاب وحركات للسلطة تعادي الولاياتالمتحدة ولكنها تعبر عن الإرادة الشعبية على نحو يحتم التعامل معها بمنطق غير أيديولوجي. فقط في هذا السياق يمكن فهم التصريحات الأخيرة لوزيرة الخارجية الأميركية حول استعداد حكومتها قبول وصول إسلاميين معتدلين للسلطة وتلميحات الرئيس بوش إلى أن نبذ العنف وإلقاء السلاح هما شروط واشنطن للاعتراف بالوجود السياسي للحركات الإسلامية بما فيها حزب الله وحماس. على الرغم من دلالة حديث بوش ووزيرة خارجيته تظل صورة النقاش الحالي في واشنطن موحية في مجملها بغياب الحسم واستمرار المقارعات بين التيارين، بل ومن المتوقع أن تقوى شوكة الرافضين مع اقتراب موعد الاستحقاقات الرئاسية والبرلمانية في عدد من الدول العربية والخوف خاصة في فلسطين ولبنان من هيمنة ممكنة للأحزاب الدينية. 3- أما حكومات الاتحاد الأوروبي، وهي تسعى منذ فترة طويلة للانفتاح على مختلف القوى السياسية والمجتمعية العربية في سياق الشراكة الأورومتوسطية، فقد حسمت أمرها بعد نقاشات مكثفة ودعت رسمياً في نهاية الشهر الماضي للحوار مع الحركات الإسلامية المعتدلة انطلاقاً من أهميتها في مجتمعاتها واقتناعاً بحقيقة التزامها بقواعد اللعبة الديمقراطية إن سمح لها بالمشاركة في الحياة السياسية. إلا أن الأمر الهام هنا هو أن الدول الأوروبية وضعت العديد من الخطوط الحمراء على توجهها هذا أهمها اشتراط موافقة الحكومات العربية على حوار الأوروبيين مع الحركات الإسلامية وضرورة أن يتم ذلك في سياقات شرعية معلنة. تعني هذه الشروط عملياً أن للحكومات العربية حق الاعتراض والرفض إن رغبت وهو ما يفرغ التوجه الأوروبي الجديد من الجزء الأكبر من جراءته المتوهمة. على الرغم من ذلك تبقى الأهمية الدبلوماسية لإعلان الاتحاد الأوروبي رسمياً عن كون الإسلاميين المعتدلين شركاء محتملين له وهو ما يوفر غطاء دوليا غير مسبوق لمطالبات الإسلاميين بالمشاركة في الحياة السياسية في دولهم. 4- إذا ما تركنا الحكومات الغربية والمواقف الرسمية جانباً ونظرنا إلى توجهات وممارسات المنظمات غير الحكومية الغربية العاملة في مجالات المجتمع المدني ودعم الديمقراطية لاكتشفنا سريعاً أن هناك تاريخا تراكميا لتعاون وحوار هذه المنظمات مع الأحزاب والحركات الإسلامية منذ التسعينيات لم توقفه توابع أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 . والأمثلة على ذلك عديدة بدءاً من برامج تدريب كوادر الإسلاميين الحزبية في المغرب واليمن التي تشرف عليها منظمات أميركية مختلفة ومروراً بمشاريع مشتركة ممولة أوروبياً ومدارة إسلامياً للتدريب المهني والتمكين على المستوى المحلي في عدد من البلدان العربية وانتهاء بتنظيم لقاءات دورية بين حركيين ومفكرين منتمين لتيارات الإسلام السياسي ورسميين أميركيين وأوروبيين عقد جلها في السنوات الثلاثة الماضية. تخلو إذن الإدعاءات الأيديولوجية الكليانية من جانب الإسلاميين برفض الحوار مع الغرب أو الدفع بأنه افتراضي ومتوهم من المصداقية. فالحوار بين الطرفين دائر منذ فترة والقضية المركزية الآن إنما تتمثل في التوجه نحو تسييسه بربطه بقضايا التغير الديمقراطي في عالمنا وبإضفاء الطابع الرسمي عليه. وهنا بالقطع ستتفاوت المواقف المعلنة للحركات الإسلامية بين الرفض والترحيب، تماماً كما تختلف مواقف الحكومات الغربية.