تمثل الصحافة العمود الفقري للمجتمع فإن استقام وصلح، استوى الجسد كله وأدت كل الأعضاء وظائفها، وان اعوج ولحقه المرض، أصيب البنيان بالهزال ولحقه الشلل، كليا أو جزئيا، فالصحافة هي الضمير المعبر عن الأمل والألم، وهي الجسر بين الحاكم والمحكوم، وهي منبر الفكر والرأي والعلم، وهي البشير والنذير، ولأهميتها الكبرى والبالغة تجيء على رأس مؤسسات المجتمع التي ينبغي الحفاظ عليها والتي يقاس بها مدى التقدم والتأخر! وفي مصر لعبت الصحافة دوراً مؤثراً في العمل الوطني والقومي منذ أن بدأت على يد رفاعة الطهطاوي الذي تطور ب “الوقائع المصرية” من نشرة تحمل أخبار الحاكم وقراراته إلى مساحة للرأي والدراسات، ثم كان بروز الصحافة في مرحلة الكفاح الوطني بدءا من سبعينات القرن التاسع عشر واشتدت في العقدين الأخيرين من ذلك القرن حتى كان لها دورها الأكثر تقدما مع بداية القرن العشرين واستمرت هكذا حتى الآن، أيا كان ما يقال عنها ومن يدرس التاريخ موضوعيا فسيجد الحقيقة تسد عين الشمس! وإذا كانت الصحافة قد تعرضت إلى تغير أساسي عندما صدر قانون تنظيم الصحافة عام 1960 فإن هذا يحسب لها وليس عليها، ومع ان هذا ليس موضوع بحثنا الآن، إلا انه يمكن وبشجاعة اقتحامه، رغم ما سيثيره من زعابيب نحن في غنى عنها، ولكنا نطمع في اعتماد منهج الموضوعية والقياس بمعايير منتصف القرن العشرين وليس الآن وببحث الظروف السياسية و”المادية” التي كانت. وعلى أي حال فإن الصحافة قد مارست دورها بعد ذلك بشرف في معارك التنمية والنضال الوطني والقومي وامتدت تأثيراتها ليس فقط عربيا وإنما أيضا على امتداد العالم الثالث من يوغوسلافيا إلى كوبا إلى الأرجنتين إلى جنوب افريقيا إلى سريلانكا وماليزيا.. وعندما جاءت مرحلة الانفتاح في منتصف السبعينات طفت على السطح مسائل حيوية منها مصير الصحافة وملكية المؤسسات الصحافية القومية وهي تحديدا: الأهرام أخبار اليوم دار التحرير دار الهلال روز اليوسف.. وشغلتنا هذه المسألة، ثم صدر قانون سلطة الصحافة عام 1980 الذي لحقه تعديل عام 1996 وكان صدوره يستهدف أمرين أساسيين فيما نرى الأول هو التخلص من عدد من الصحافيين الكبار فجاء النص بتحديد سن المعاش بالمخالفة لكل ما كان متعارفاً عليه وما هو مطبق في كل العالم! والأمر الثاني هو إباحة تأسيس شركات خاصة لإصدار الصحف مع تحديد سقف لملكية الشخص الواحد من الأسهم، فكانت النتيجة سلبية! والآن، ومنذ فترة قصيرة عادت المسألة للبروز مرة أخرى، وبدأ الكلام عنها، وأمسكت القلم لأكتب وخلال محاولتي جاءتني دعوة للمشاركة بالتحدث في ندوة “الإعلام المصري والتغيرات السياسية الراهنة” التي نظمها معهد الأهرام الإقليمي للصحافة ومركز التدريب الاقتصادي وشبكة انترنيوز العربية، وكانت محاورها متصلة بذات الموضوع، فقررت تأجيل كتابة المقال إلى ما بعد الندوة التي كانت جلستها الأولى عن “تداعيات التحول من الاستفتاء إلى الانتخاب” وكان مطلوبا مني التحدث فيها.. فقلت رأيي. انه لا أحد ضد الديمقراطية ومفهومها الذي يتضمن حرية التعبير، والتغيير، والذي يمكن تلخيصه ببساطة بأنه “حق الاختيار”، ولكن لكي أمارس حقي في “الاختيار” فإنه يتحتم أن أكون قادراً على هذه الممارسة وفي الوقت نفسه “مؤمناً” بتشديد الميم الثانية ضد أخطارها، أي لا يصيبني أذى وضرر. ومع هذا، فإن الصحف القومية في حاجة بالفعل إلى التطور، ولكي نقول كيف؟ يجب أولاً معرفة انه وفقاً لقانون تنظيم الصحافة عام 1960 فإن الملكية تعد اسمية للاتحاد الاشتراكي الذي خلفه مجلس الشورى وهو الذي يعين رئيسي التحرير ومجلس الإدارة وأعضاءه وبينهم منتخبون عن الصحافيين والإداريين والعمال، ولكن أرباح المؤسسة يوزعها مجلس الإدارة وفق أولويات: البنود الثابتة، والمشروعات، والاحتياطي، ونسبة محددة (هي الفائض) توزع على العاملين.. أي ان العاملين هم عملياً المستفيدون من الأرباح ولا يذهب مليم واحد إلى الحكومة أو مجلس الشورى! فكيف إذن، نحرر هذه المؤسسات؟ وما الذي تستهدفه الدعوات التي تكررت أخيراً؟ إن الصوت الظاهر يقول بخصخصتها، أي بيعها للقطاع الخاص، فهذا هو الحل السهل والتقليدي، وعملا بالتجارب يكون البيع لمستثمر رئيسي، وهنا فيما نرى تحل الكارثة وتكون النكبة! وبداية فإنني أعتقد انه لا يوجد مستثمر مصري يستطيع أن يشتري احدى هذه المؤسسات نظراً لضخامة القيمة المادية لأصولها الثابتة فضلا عن قيمة “الاسم التجاري” الذي تزيد قيمته ماديا على أكثر من عشرة أضعاف الأصول! والمعنى انه لا يمكن لمستثمر رئيسي أن يشتري، ولا يمكن عملياً تأسيس شركة تضم أكثر من مستثمر للشراء، وبهذا سيكون الباب مفتوحاً لمستثمر أجنبي سواء جاء ظاهراً أو متخفياً، وبهذا نكون قد استدعينا أجنبيا ليتولى احدى الفرق المدرعة للقوات المسلحة! إذن.. ما الحل؟ ان الحل في رأيي هو ان تبقى المؤسسات الصحافية في هيكلها العام كما هو ولكن بتعديلين أساسيين: الأول: هو تفعيل هياكلها أي بجدية انتخاب الجمعية العمومية ومجلس إدارة ليكون كل منهما تشكيلاً حقيقياً. الثاني: ان ينتخب المؤتمر العام أي كل العاملين رئيس مجلس ادارة، وان ينتخب الصحافيون رئيس التحرير. وبهذا يصبح الهيكل التنظيمي للمؤسسة مشكلا من: 1) المؤتمر العام: يضم كل العاملين وينتخب رئيس مجلس الادارة وأعضاء المجلس وأعضاء الجمعية العمومية كل أربع أو خمس سنوات مثلا، ويجوز للمؤتمر ان ينعقد عند الاقتضاء. 2) مجلس الادارة ورئيسه المنتخب مباشرة. 3) الجمعية العمومية التي تراقب أعمال المجلس وتجتمع دوريا. 4) مؤتمر الصحافيين الذي ينتخب رئيس التحرير ومجلس التحرير. وهذا بالطبع يعني استقلالية المؤسسة ولا تكون تابعة لجهة ما، وهنا وهذا هو الجديد تكون ملكيتها تعاونية للعاملين فيها دون توريث وتنتهي ملكية “العامل” بخروجه من المؤسسة لأي سبب دون أي حق له. والأمر بالطبع يستلزم الى جانب ما طالبنا به سابقاً إلغاء قانون سلطة الصحافة وتعديلاته بكل بنوده ومنها شرط سن المعاش على أساس ان الرئاسة والمناصب القيادية ستكون بالانتخاب وبعضها من المجلس الاداري أو التحريري المنتخب أيضا ويكون الجميع تحت مراقبة ومساءلة الجمعية العمومية والمؤتمر العام. ولا داعي للقول فهذا بديهي انه بدلا من قانون سلطة الصحافة، يوضع قانون آخر، ويشكل مجلس أعلى للصحافة بمشاركة كل الآراء للتنسيق ومتابعة الأداء للجميع وفق القانون وميثاق الشرف الصحافي. ----- صحيفة الخليج الاماراتية في 12 -6 -2005