عرضنا في المقالات السابقة، التي دشناها بمقالة بعنوان "في نقد الحاجة إلى الإصلاح" (وقد نشرت في هذا المكان بتاريخ 20-07-2004)، عرضنا لمسألة "الإصلاح" كما عرفتها كل من المرجعية الأوروبية منذ القرن السادس عشر، والمرجعية العربية الإسلامية. وقد ركزنا في هذه الأخيرة على الأفغاني وعبده بالنسبة لبداية "النهضة العربية الحديثة" من جهة، وعلى ابن رشد وابن خلدون بالنسبة لبداية "عصر الانحطاط" في الحضارة العربية في القرون الوسطى، من جهة أخرى. لقد خالفنا التسلسل الزمني داخل هذه المرجعية قصدا، فقدمنا الأفغاني وعبده على ابن رشد وابن خلدون، لأن الكيفية التي طرح بها هذان الأخيران مسألة الإصلاح قد تبدت لنا أقرب إلى "مشكل الإصلاح" كما يواجهنا اليوم: كان طرح الأفغاني وعبده طرحا براغماتيا (منفعيا) وإيديولوجيا (رد فعل ضد الاستعمار واستنهاض العرب والمسلمين لمقاومته والتحرر منه)، فكان دور "الخارج" في هذا الطرح (أعني مقاومة التدخل الخارجي) دوراً مركزيا، بينما كان الدور الحاسم، بل الوحيد، في الطرح الرشدي الخلدوني ل"الداخل" (أعني الوضع الداخلي). إن غياب "الخارج" في أفق ابن رشد وابن خلدون جعلهما يتجهان إلى جوهر المشكل، إلى طبيعة السلطة وانتقالها من فئة (أو قوة اجتماعية) إلى أخرى داخل المجتمع، متجهين بأنظارهما إلى التاريخ. وبالعكس من ذلك كان حضور الخارج، وبقوة، في أفق الأفغاني وعبده عاملا أساسيا في الدفع بهما إلى التركيز على قضية الهوية والسيادة، فكان من الطبيعي أن يكون خطابهما خطابا سياسيا، براغماتيا: كل شيء يجب تسخيره من أجل حفظ الهوية والسيادة، أو استرجاعهما. وكما أبرزنا ذلك في حينه فقد كانت ظروفهما تبرر هذا النوع من الخطاب! والآن، وقد اقتربنا من خاتمة هذه السلسلة نعود إلى النقطة التي انطلقنا منها، إلى مفهوم "نقد الحاجة إلى الإصلاح"، كما ينبغي أن يطرح في الظروف الراهنة. تطرح قضية "الإصلاح" في العالم العربي، اليوم، مرة أخرى ضمن ثنائية "الداخل- الخارج"، ولكن مع اختلاف في المضمون والاتجاه، مع نوع من تبادل الأدوار. معلوم أن "قضية الإصلاح" في العالم العربي قد طرحت في هذا العقد من طرف الولاياتالمتحدة الأميركية، التي تمثل اليوم "الخارج". والخطاب في هذا الطرح موجه إلى الحكام في الأقطار العربية، فهم الذين يطلب منهم القيام ب"الإصلاح". أما رد فعل هؤلاء فتلخصه عبارة فقيرة نصها: "الإصلاح يجب أن يكون من الداخل"! أي أن "نقوم به نحن الحكام حسب ظروفنا ومصلحتنا"! نحن هنا إذن أمام معادلة فارغة تجد حلها في "الصفر"، على الصورة التالية : س + ص = 0 (الإصلاح الذي تنادي به الولاياتالمتحدة وهي "الخارج"، زائد الإصلاح الذي يقدمه الحكام العرب بديلا عنه وهم "الداخل"، يساويان صفراً). ولبيان فراغ هذه المعادلة نقول: إن الإصلاح الذي تتطلبه الوضعية الراهنة في العالم العربي والإسلامي، وفي بلدان أخرى كثيرة، لن يكون له من معنى، على صعيد "السيادة" ومتطلبات حفظها، كما على صعيد دمقرطة السلطة ومتطلبات عدالتها، إلا إذا تم بإبعاد كل من دور "الخارج" الذي يعنى بكل صراحة ووضوح: "حفظ المصالح القومية الأميركية في منطقتنا"، ودور "الداخل" الذي يعني بنفس الدرجة من الصراحة والوضوح: "حفظ المصالح الشخصية للفئة الحاكمة". وإذا شئنا أن نكون صرحاء مع أنفسنا ومع غيرنا وجب أن نقول إن عملية الإصلاح في العالم العربي والإسلامي لن يكون لها أي مدلول واقعي تاريخي ما لم يكن هدفها الحد من تأثير الطموحات الإمبريالية، أميركية كانت أم غير أميركية من جهة، وجعل حد للحكم الفردي الاستبدادي الذي يمارسه شخص يتسمى باسم "الملك" أو "الأمير" أو "رئيس الجمهورية" أو أي رئيس يصف نفسه بما يحلو له من الأوصاف... لا يشكل ما تقدم سوى أحد وجهي القضية. أما الوجه الآخر فيقع كسابقه ضمن ثنائية "الداخل- الخارج"، ولكن على مستوى مختلف. ذلك أن "الداخل" و"الخارج" ليسا عنصرين بسيطين، بل كلاهما مركب مزدوج. ف"الخارج" الذي يمثله اليوم الرئيس بوش وإدارته لا ينحصر في الطموحات الإمبريالية التي يطلقون عليها عبارة "الدفاع عن المصالح القومية الأميركية"، بل هو يمتد ليشمل ما يسمونه ب"الحرب على الإرهاب". أما "الداخل" فلا يمثله الحكام بمفردهم، بل يشمل، فضلا عن أجهزة الدولة والأحزاب الحكومية، صنفين من النخب: صنف نسميه النخبة "العصرية"، خصوصا منها تلك التي ترتبط بقيم الحداثة والعصرنة، والتي يقف بعضها موقفا معارضا بل عدائيا للحكم الاستبدادي القائم، بينما يتردد موقف فئات منها بين المعارضة الصامتة والمعارضة المندمجة في هذا الجهاز أو ذاك من الأجهزة الحاكمة بما في ذلك المناصب الوزارية. أما الصنف الثاني فنطلق عليه اسم النخبة "التقليدية" التي ترتبط بالتراث، مفهوما على أنه "تطبيق الشريعة" بصورة خاصة. ومن هذه النخبة من يقف موقفا معارضا للحكومات وأحزابها ومنها من ينوس بين واقع الاندماج في الدولة وبين تكفير الدولة والمجتمع... وكما يشكل عنصر "الإرهاب" أحد مكونات "الخارج" كما ذكرنا، يشكل في الوقت نفسه أحد العناصر المكونة ل"الداخل" في معظم الأقطار العربية والإسلامية. وليس المقصود هنا الإرهاب كعنصر إلى "الخارج"، و"الخارج" إلى "الداخل" إلى درجة التماهي، على صعيد الموقف على الأقل: فريق، بل فرقاء، من "الداخل" مع "الخارج" في محاربة الإرهاب، بالسيف أو باللسان أو بالقلب. وفريق ينظر إلى ما يسميه "الخارج" وحلفاؤه بالإرهاب نظرة أخرى. بعضهم يراه مقاومة، وآخرون يرونه "فريضة جهاد". وهكذا، فإذا نحن نظرنا إلى هذا التعدد في الموقف من "الإرهاب"، على مستوى "الداخل"، تبين لنا كيف أن شعار "محاربة الإرهاب" الذي باسمه يتدخل "الخارج" في الأقطار العربية هو موقف من شأنه أن يشعل "الحرب الأهلية" في هذه الأقطار. وقد أحس "الخارج" بهذه النتيجة – وكيف لا يحس بها وهو غارق في وحل الحرب التي يشنها "على الإرهاب" في العراق والتي تدفع دفعا نحو إشعال حرب أهلية، رسمية ومُمَأسسة! و"الخارج"، كعادته، لا يريد أن يسمي الأشياء بأسمائها خصوصا عندما يكون "الاسم" فيه إحراج له. لذلك نجده يخترع اسما جديدا لما يجري في العراق: إنه يتحدث الآن عن "الفوضى الخلاقة"، بعد أن كان يتغني من قبل ب"الحرية". وهكذا فبعد أن كان مفهوم "الحرية" مقرونا ب"المساواة" و"الأخوة" في شعار الثورة الفرنسية (حرية، مساواة، أخوة) Liberté, Egalité, fraternité، التي أسست لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في العصر الحديث، يعود بنا "المحافظون الجدد" في أميركا إلى مفهوم للحرية انتقده أفلاطون لكونه هو "الفوضى" ذاتها، والفوضى عند اليونان هي "العماء" الشامل Chaos وهو عندهم مرادف للانظام. ولذلك سمى المدينة التي تقوم على "الحرية" بهذا المعنى ب"حكم الدهماء". إنه النوع نفسه الذي حذر منه ابن رشد منبها إلى أن الاجتماع في مثل هذه المدن (مدينة "الحرية") إنما هو اجتماع بالعَرَض، لأنهم (سكانها) لم يكونوا ليقصدوا باجتماعهم غرضا واحدا [يجمعهم]. والرئاسة فيها إنما تكون باتفاق (البخت = الحظ). ------- صحيفة الاتحاد الاماراتية في 14 -6 -2005