كان طبيعياً أن تمتنع وسائل الإعلام الرسمية المصرية عن نشر تفاصيل المكالمة الهاتفية التي طلب فيها الأسبوع الماضي الرئيس الأمريكي جورج بوش من الرئيس حسني مبارك ضمان حرية الانتخابات المصرية وقبول مراقبين دوليين لمتابعتها وإحالة المتورطين في أحداث يوم الاستفتاء على تعديل الدستور إلى المحاكمة، وقد تعمدت واشنطن إذاعة ذلك علناً على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض عن هذه المكالمة التي اعتبرتها أوساط مصرية تدخلاً سافراً في الشؤون الداخلية لبلادها. ويمكن القول ان تعمد الإدارة الأمريكية إذاعة تفاصيل هذه المكالمة جاء للضغط على مؤسسة الحكم في مصر، وهو يحرج في الوقت نفسه القوى الناشطة في دعواتها إلى توسيع الهامش الديمقراطي في البلاد وتداول السلطة، ذلك أن هذه المطالب ستوصف بأنها أمريكية، والإصلاح الذي يدعو إليه المنادون بها مطلب خارجي. وبالنظر إلى ما للولايات المتحدة من سمعة سيئة بين المصريين، فإن نشر واشنطن تفاصيل تلك المكالمة يمكن أن تتسلح به دوائر السلطة في مواجهة خصومها في دوائر المعارضة. إذ يكرر بوش أن مصر بمكانتها المحورية في العالم العربي مؤهلة لتقود مسار الديمقراطية في الشرق الأوسط (بعد أن قادت مسيرة السلام)، فإن انخراط الولاياتالمتحدة في سياق الجدل المصري بشأن الإصلاحات السياسية يعيق مسار هذه الإصلاحات، ويدفع في الوقت نفسه نحو المزيد منها، ما سيتطلب نأي القوى المدنية والإصلاحية عن الخطاب الأمريكي، ووجوب تشديدها على حاجة الشعب المصري نفسه إلى تطوير مؤسسات الحكم وتحديثها ودمقرطة صناعة القرار. وللحق، ليس ملحوظاً تعويل القوى المذكورة على الخيار الأمريكي الذي يزعم المحافظون الجدد من أصحابه أن نشر الديمقراطية في العالم العربي جزء من الأمن القومي للولايات المتحدة. غير أن هذا لا يعني عدم التسليم بأن الحيوية الكبيرة التي صار يتصف بها الفضاء السياسي المصري أفادت من الدفع الأمريكي المشار إليه، ومن العين الأمريكية التي تحدق في المشهد المصري. ويلحظ زائر مصر هذه الأيام وقارئ صحافتها المعارضة مقادير من الجرأة العالية (والتجرؤ أحياناً) على مؤسسة الرئاسة، وتصيب كتابات فيها شخص الرئيس نفسه بالنقد والانتقاد، ما لم يكن مشهوداً سابقاً. ويعاين المرء المتابع مساحة واسعة صارت أكثر وضوحا في السياق المحلي الذي تلعب فيه التشكيلات السياسية والمدنية وهيئات القضاء والتدريس الجامعي وأطر المثقفين، ويسوغ هذا الحال أملا غير مستبعد الحدوث في المسار الإصلاحي والديمقراطي، ربما وجب النظر إليه باعتباره الرهان الذي يستحق التوجه إلى تثميره وصولا إلى آفاقه المتوخاة. وإلى هذا المشهد، ثمة النشاط الأمريكي الذي يضع مصر أمام مجهر واسع، تتوجب مراقبته بعيون تتفحص رهاناته وأغراضه، من دون توظيفه في معركة الإصلاح الداخلية، ومن جديده أن الكونجرس يدرس حاليا مذكرة تقضي بمنح الرئيس مبارك مهلة ثلاث سنوات لبدء “عملية انتقال ديمقراطي حقيقي”، وتحرض الإدارة على ربط المساعدات الاقتصادية لمصر بما تنجزه القاهرة في هذا الإطار. ويرد فيها أنه عندما تسنح فرصة للإصلاحيين الإسلاميين سيكون بإمكانهم التعبير عن قضيتهم ديمقراطيا. ولا تستبعد هذه المذكرة التي أعدها “مركز مشروع القرن الأمريكي الجديد” المحسوب على المحافظين ضرورة إقامة علاقات مع الإخوان المسلمين حتى لا تتعرض المصالح الأمريكية للخطر في حال وصولهم إلى الحكم. والبادي ان النقاش الأمريكي في شأن الديمقراطية في مصر يتوخى مصالح الولاياتالمتحدة في المقام الأول، وهذه بطبيعتها مغايرة للمصلحة المصرية الداخلية، ناهيك عن أنها ترى في إشاعة الديمقراطية وتمكين قوى الاعتدال في الدول العربية من شأنها تخفيف العداء ل “إسرائيل” والمضي نحو إقامة علاقات طبيعية معها. وعلى صلة بذلك، يناقش الكونجرس أيضا مشروع قرار لدعم الديمقراطية في العالم، يتركز على جمهوريات آسيا الوسطى والدول العربية، ومؤداه أن الأنظمة المستبدة إذا لم تبادر بنفسها إلى الإصلاح الديمقراطي فإن هذا الإصلاح لا بد أن يتم فرضه عليها من الخارج. وعلى غير هذا المنحى يبدو جهد مجموعة العمل الأوروبية الأمريكية العربية التي تشكلت في مؤتمر عقدته “مبادرة الشراكة الاطلنطية الديمقراطية” في بروكسل، وهي مجموعة ستعنى بمتابعة تطورات المشهد المصري خلال الأشهر الستة المقبلة لتوثيق وتقويم سلوك الأطراف الفاعلة فيه واتساقها مع معايير الإصلاح الديمقراطية. وإذا أضيف ان مؤتمر وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورج قبل أيام ناقش باتساع قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان والانتخابات في دول الشراكة المتوسطية العشر، ومنها مصر، وأن فرانسيس تاونسند كبيرة مستشاري بوش زارت القاهرة في نهاية الشهر الماضي واجتمعت مع الرئيس مبارك ووزير الداخلية حبيب العادلي، وناقشت معهما أحداث يوم الاستفتاء “والصورة المأمولة لمشروع قانون انتخابات الرئاسة” بحسب بعض الأخبار . إذا أضيف هذان النشاطان إلى ما سبق، فإن قول وزير الخارجية المصري أحمد أبو الغيط إن الدعوات الخارجية إلى الإصلاح تمثل “هجمة شرسة” على بلاده قد يكون صحيحا، بالنظر إلى أن مصر أصبحت تحت اختبار يتحدد لها مهل زمنية لاجتيازه، فيما الاختبار الأوجب للرهان عليه هو ما تخوضه قوى التغيير والتحديث في مصر من معارك ضاغطة على السلطة باتجاه الاستجابة لمقتضيات التطور الاجتماعي والسياسي المنشود، والذي يجوز القول ان مصر هي الأكثر تأهيلا بين الدول العربية لعبوره، وفي هذا نقاش يطول. ---- صحيفة الخليج الاماراتية في 16 -6 -2005