العالم الآن بدأ يفكر فى العلاج النفسى بالموت، أى يضع الإنسان نفسه فى قبر أو تابوت ويضجع فيه ليخرج مكنونات مرضه النفسى، وهو على هذه الحالة، التى سيصل إليها حتما كل إنسان على قيد الحياة، وإن كانت المسألة بدأت صينية، فى عصرنا الحالى فقد طبقها كثير من زهاد الإسلام منذ قرون عديدة، وكان الواحد منهم (الإمام سفيان الثورى، والربيع بن خيثم) وغيرهما يحفرون قبورهم ويضجعون فيها ثم يخاطبون أنفسهم بخطاب الوعظ وتمنى النفس بالرجوع للعمل الصالح، أى أنهم قد رجعوا فى الدنيا فماذا هم فاعلون ومقدمون لله تعالى قبل أن يقال لهم ردًا على طلب الحقيقى بعد الموت برجوعهم للدنيا للعمل الصالح: {كلا}. أنا أعلم أن أكثركم يجفل من ذكر الموت، وسيرة الموت، لأن النفس -أو على الأقل نفوسنا الآن- لم تعد تريد إلا الحياة الحلوة بمالها وسلطانها وشبابها ونسائها وملذاتها وأهوائها وحلالها وحرامها، وحلوها وحامضها وزخرفها وبهرجها وزينتها ولهوها ولعبها وتفاخرها وتكاثرها, وكل ما فيها من حلو وجذاب، وننسى «حق اليقين» وهو الشيء الذى لا بد منه, والكأس الذى لا بد من شرابه، والورد الذى لا بد من وروده، والباب الذى لا بد من دخوله، وأعنى به الموت.. لكن بالرغم من كل ذلك فلا بد أن أعيشكم هذه الساعة التى عشتها فى رحاب الموت، بعد أن تم تكفينى وتربيط رأسى وعنقى وبطنى ورجلى ويدى، ونقلت على النعش, وحيدا فريدا.. لا زوجة، ولا ابنا أو ابنة، ولا صديقا، ولا حبيبا، ثم دخلت القبر ومددت فيه هذه المسافة الزمنية، التى أشعرتنى بحقارة الدنيا وهوانها وأنها كما أخبر سيد البشر صلى الله عليه وسلم: «لا تساوى عند الله جناح بعوضة". نعم ذقت الموت ورأيته بأم عينى, ولم يحكِ لى أحد التجربة, بل أنا الذى مررت بها وذقتها وعرفتها وتذكرت فيها قول الله تعالى عن الموت: {ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه, فقد رأيتموه وأنتم تنظرون}.. ومرت علىّ خمسة وثلاثون موضعا ذكر الله تعالى فيها الموت فى قرآنه الكريم شيبتنى وزلزلت نفسى وعرفتنى أننى ضعيف أمام قوة الله وأمام سره العظيم فى حقيقته الخالدة ألا وهى الموت, وعشت فى حياة البرزخ، وأول منازل يوم القيامة, وهو القبر, ولم أملك خلال هذا الوقت إلا أن أتشهد وأتحقول -أى أقول لا حول ولا قوة إلا بالله- وأوحد الله بلسانى وجنانى, وأصلى على عبده ورسوله وسيد ولد آدم, محمد صلى الله عليه وسلم وأستحضر عقلى وفؤادى وإيمانى للرد على أسئلة منكر ونكير ولسانى لا يزال يلهج بقراءة القرآن الكريم. ولنبدأ الحكاية من أولها.. منذ سنوات طويلة - يعنى مع بداية شهرة الأشعة المغناطيسية - ألم بى مرض فى غضاريف رقبتى ولم يفلح استشارى العظام فى واحد من أكبر مستشفى خاص - لن أذكر اسمه - فى كشف ما بى، ولم تفدنى مراهمه وكبسولاته ولا حتى إبره التى اقترحها لى أن تغرز فى موضع الألم, واستمر الحال يوما بعد يوم، وازدادت الآلام, ولم يسعفنى إلا الله الذى أرسل لى صديقا حبيبا قادنى إلى مستشفى ليس خاصا بل حكوميا, وما قصَّر أطباؤه فى العناية والرعاية وقرروا أن يجروا لى أشعة مغناطيسية, للتأكد من سلامة الغضاريف, وبدأت إجراءات عمل الأشعة العجيبة الغريبة.. دخلت غرفة تبديل الملابس فتخليت عن ثيابى، ولبست "الروب" الذى هو أشبه بالكفن ما عدا لونه, فليس له جيوب, وليس له من الوجاهة ما يجعلك فرحا بلبسه, وتمددت على نقالة أشبه بنعش الموت، أو على «آلة حدباء», وتم تغطيتى بملاءات بيضاء مثل ملابس الكفن، ثم ربطوا يدى ورجلى وساقى وبطنى ورأسى ورقبتى وطُوِّقتُ من كل جسدى, ثم ضغطوا على "زر" فسار بى النعش فى غرفة ضيقة ضيق القبر، ونورها خافت, وأنا معصوب الأطراف لا أكاد أبين ولا يمكننى التحرك، وتذكرت ساعتها قول كعب بن زهير: كل ابن أنثى وإن طالت سلامته/ يوما على آلة حدباء محمول. فتحت عينى فتملكنى خوف شديد, إذا رأيت سقف القبر فى رأسى ويكاد يلمس رموش عينى، غمضت عيني, ونسيت نفسى والدنيا وزوجتى التى تجلس فى البيت على أحر من الجمر تترقب بدموعها ما الذى جرى لى, وهى تجأر إلى الله بالدعاء وطلب الرحمة والشفاء، وأولادى الذين ودّعونى بوجل وهم يرفعون أكف الدعاء إلى الله قائلين: "يارب اشف لنا بابا يارب"!! لم أتذكر أى شيء فى دنياى إلا أننى ميت وابن ميت.. نسيت أهلى وأولادى وأموالى وبيتى وسيارتى وأمى وأبى وأخوتى وأصدقائى وأحبابى, والصحافة وعالمها الكبير والزملاء ورئيس التحرير والصحيفة والقراء والدنيا كلها بمن فيها وما فيها, وتلوت قول الله تعالى: {ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة وتركتم ما خولناكم وراء ظهوركم..}. وانتظرت بحق مجيء منكر ونكير وسؤالهما لى وسألت الله تعالى التثبيت. خاطبتنى نفسي: "يا هذا.. يا هووه إيش الحكاية؟ أنت حى وعلى ظهر الدنيا هذه كلها تخيلات وتهيؤات", وزاد من ذلك أن طن فى أذنى مكبر صوت داخل من السقف الذى يكاد يلمس رأسى: هل تسمعنى؟ ما اسمك؟ وكم عمرك؟ لا تتحرك أى حركة, لا تنزعج من الأصوات العالية والخبط الذى ستسمعه بعد قليل.. وأكد لى ذلك كله أننى على قيد الحياة وأننى أسمع وأرى .. وبالرغم من ذلك جلست أعيش هذه اللحظات على أنها لحظات موت وأن المكان المغناطيسى هذا هو قبر حقيقى وأننى ربما بالفعل أموت من لحظتى هذه فماذا يكون قولى لربى ولرسل ربى وكيف أقدم على الله وما قدمت لى علما ولا عملا!!. لم أملك سوى دموعى أقدمها بين يدى ربى فى هذه اللحظات, وتلوت سورة يس, ولم تنته المدة ولم يسكت عنى الخبط على رأسى فأتبعتها بالواقعة, ثم بالملك, ثم بآية الكرسى وخواتيم البقرة, والزلزلة والتكاثر والقارعة والمعوذات وتشهدت ودرّبت لسانى على الإجابة عن سؤال منكر ونكير: وأنا أقول: "الله ربى، الإسلام دينى، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيى ورسولى, والقرآن كتابى، والكعبة قبلتى".. وأقول: "ياربى ويارب كل شيء إنى أُشهِدك وأُشهِد حملة عرشك وملائكتك وجميع خلقك أنك أنت الله لا إله إلا أنت وأن محمدا عبدك ورسولك". وانتهى الخبط عنى وتم سحبى من القبر وفكوا عنى الأربطة التى على أطرافى، وقمت لأرتدى ثيابى وأرجع إلى الدنيا مرة ثانية.. كان هذا اختبارا شديدا مر بى وعرفنى من أنا، وكيف أننى وأنت وأنتم سوف نلقى حقيقة فى قبر حقيقى لا ينفعنا فيه سوى ما قدمنا من عمل صالح وتقوى لله ربنا، والفرصة لا تزال أمامنا، فالله "يقبل التوبة من عبده ما لم يغرغر" وما لم تصل الروح الحلقوم، والحمد لله لم تصل الروح بعد إلى الحلقوم، فهل ننتهزها فرصة ونقف نراجع أنفسنا مع الله ونستعد إلى لقاء الله بإخلاص شديد وإيمان قوى وعمل صالح، نراعى فيه وجه الله، فهل نفعل قبل فوات الأوان, وقبل أن نرجو من الله أن نرد فنعمل غير الذى كنا نعمل، أو نقول كما قال العبد الطالح عند الموت: {رب ارجعون لعلى أعمل صالحا فيما تركت}، فيقال لنا كما قيل له: {كلا، إنها كلمة هو قائلها ومن ورائهم برزخ إلى يوم يبعثون}. دمتم بحب [email protected]