كانت الساعة تقترب من الحادية عشرة مساء عندما نادى علينا شاويش العنبر لتجهيز أنفسنا للترحيل إلى سجن الوادى الجديد الذى كان أحد السجون الجديدة التى أضافها وزير الداخلية الأسبق / حسن الألفى لقائمة السجون المصرية، واختار بناءه فى منطقة قاحلة على أنقاض سجن المحاريق الذى سجن فيه عبد الناصر الإخوان المسلمين. كنت ضمن التغريبة رقم "5" التى سيتم ترحيلها إلى ذلك المكان المقفر، فقد سبقتنا أربع تغريبات ولم تكن أخبارهم وما حدث معهم قد وصلتنا بعد وكانت خطة الداخلية حينها تقضى بإرسال معتقلى الوجه البحرى لسجن الوادى زيادة فى التنكيل بذويهم، وحتى تصبح زيارتهم قطعة من العذاب فيحجم الأهالى عن زيارة أبنائهم، مما يؤدى لانهيار نفسيات المعتقلين وتحطيم إرادة المقاومة داخلهم. خرجنا من غرفنا بعنبر "د" فى سجن استقبال طره والذى تم تجميعنا فيه قبل التغريبة بعدة أيام حتى يسهل إخراجنا ليلاً، وهذا العنبر إضافة إلى عنبر "ج" بجواره يعتبر من أسوأ الأماكن فى سجون مصر قاطبة من حيث التهوية ودخول الهواء إلى غرفه، ولا يليق بمصر الثورة أن يتم حبس أى إنسان فيهما لافتقارهما مقومات الحياة الآدمية. كنا ندرك أننا مقبلون على المجهول وأن سبل الاتصال بأهلينا وذوينا ستتقطع، ولكن ماذا عسانا أن نفعل سوى أن نفوض أمرنا لله الرحمن الرحيم الذى تعودنا منه الجميل، كانت ليلة باردة من ليالى شهر مارس عام 95 وتم شحننا فى عربة الترحيلات بواقع حوالى 50 معتقلاً فى العربة الواحدة بعد أن تم قيد كل اثنين منا فى قيد حديدى واحد، وكانت العربة لا تتسع لكل هذا العدد إضافة إلى أمتعتنا ولكن تم حشرنا حشرا فى السيارة والتى انطلقت فى منتصف الليل تشق هدوء الليل فى موكب مهيب، حيث كان يفصل بين كل عربتين عربة حراسة مثبت عليها مدفع ضخم، ولم يكن أمامنا من سبيل لاتقاء الرياح الباردة التى تدخل علينا من نوافذ السيارة بدون شفقة أو رحمة، سوى أن نلصق أجسادنا بعضها ببعض، وما بين اليقظة والمنام قضينا ليلنا إلى أن وصلنا إلى مدينة منقباد بمحافظة أسيوط، ونزلت قوة الحراسات الضخمة للاستراحة والاستجمام ورفضوا رفضاً نهائياً السماح لأى واحد منا بقضاء حاجته، وما علينا إلا أن نتحمل حتى نهاية الرحلة الشاقة لسجن الوادى الجديد. وصلنا لباحة السجن قرب العصر من اليوم التالى، وانتظرت السيارات خارجه للسماح لها بالدخول واحدة تلو الأخرى، وعندما تهادت سيارتنا داخل السجن وفور أن أغلقت البوابة الكبيرة أبوابها إلا وفوجئنا بالعصى تنهال على السيارة من الخارج وجنود الأمن المركزى يصيحون فينا بهستيريا غريبة طالبين منا بأن ننزل ونترك كل أمتعتنا فى السيارة إضافة إلى سيل لا ينقطع من السباب والشتائم، وفور نزولنا من السيارة تلقفتنا الأيدى بالصفع والأرجل بالركلات وأمرنا الجنود أن نصطف صفاً واحداً ونخرج ما بحوزتنا من "مصاحف" ثم خلع ملابسنا عدا قطعة واحدة تستر عورتنا وطوال رحلتنا من بوابة السجن إلى العنابر الداخلية كنا نتعرض لوابل من الضرب والصفع والسب، وعرفنا فيما بعد أننا أفضل حالاً من التغريبات التى سبقتنا والتى كان يتم سحلها من البوابة الخارجية إلى الزنازين على الأسفلت، إضافة لضربها بالعصى والهراوات وليس بالأيدى، ولكن كل هذا كان يهون أمام إصرار عساكر الأمن المركزى على تسمية أنفسنا بأسماء ممثلات معروفات وعندما رفضنا بطبيعة الحال زادوا فى جرعة الضرب والسب. دخلنا إلى غرفنا، وعندما جاء وقت توزيع الطعام لم يكن فى الغرفة أى أوعية أو أطباق، ففوجئنا بما لم نتخيله فى حياتنا، حيث أمرنا شاويش العنبر أن ننظف مكاناً خلف باب الغرفة ليضع لنا الطعام على الأرض مباشرة!! وبصوته الأجش أذاع علينا الشاويش قائمة الممنوعات وعلى رأسها المصحف الشريف أو رفع الأذان بصوت عال فى العنبر! وكم تعرض المعتقلون للضرب المبرح نتيجة إصرارهم على رفع الأذان أو تهريبهم لنسخة من كتاب الله. سجن الوادى الجديد استحق على مدار سنوات بداية من عام 95 حتى نهاية 2001 أن يلقب بباستيل مصر، نظراً لحالات التعذيب الوحشية التى كانت تتم بين جدرانه والتى تسببت فى وفاة كثير من المعتقلين لعل أشدهم بشاعة ذاك الذى تبول أحد أمناء الشرطة فى فمه فمات من الصدمة!! أما أغرب هتاف كان الجنود يحمسون به أنفسهم قبل حفلات التعذيب اليومية فهو "عبد الناصر يا حبيب احنا دخلنا تل أبيب!!" [email protected]