صدعنا أهل الفن والأدب في مصر بمطالبتهم بحرية الإبداع التي إذا ما نالوها أبدعوا فنوناً في غرف النوم والكباريهات يخجل أكثر أهل مصر اقتناعاً بالليبرالية من مشاهدتها مع ابنه أو ابنته مهما صغر عمرهما أو كبر. ولابد للإبداع من قيود كي نستشعر قيمته وروعته، هل كان سيعد اختراع الطائرة إبداعاً لو لم تتغلب على قيود الجاذبية الأرضية؟ وهل كانت السيارة ستعد إبداعاً لو لم تتغلب على قيد سكون الأجسام ما لم يحركها أحد؟ دعنا من العلوم التي يهملها هؤلاء "المبدعين"، ولننظر مثلاً إلى "بداية ونهاية" لنجيب محفوظ على سبيل المثال، تلك الرواية التي كتبت قبل زمن عسكر يوليو بثلاث سنوات ليسمح بعرضها في سينمات يوليو دون أن يفهم رقيب يوليو أن الرواية كتبت استشرافاً للمستقبل القريب الذي أصبح حاضراً معاشاً فيما بعد يوليو 52. ظن رقيب يوليو أن الرواية تتكلم عن فترة حكم الملك واضطهاد الطبقات الوسطى بينما كانت تتكلم عن المستقبل الذي لم يأت بعد، والذي ستقوده قيادات غير متزنة نفسياً كحسنين بطل الرواية (عمر الشريف في الفيلم)، ذلك الفتى الطامح الطامع في ترك طبقته الفقيرة والالتحاق بالطبقة العليا بالعمل كضابط في الجيش المصري، وبالزواج بابنة الباشا والتنكر لحبيبته السابقة، ولمجهودات أخته الكبرى التي أنفقت على تعليمه إلى أن أتم تخرجه من الكلية الحربية. إبداع محفوظ في هذه الرواية كان يستشرف أن السماح بدخول الكلية الحربية لأبناء الطبقة الوسطى في أواخر العهد الملكي لن يسمح بتوزيع السلطة على كافة أبناء الشعب ولكنه سيخلق طبقة جديدة تستغل السلطة في التنصل من أصلها ومن طبقتها التي تربت فيها وعايشت محنها. كتبت الرواية في أربعينات العهد الملكي، وعرضت في الستينات في أوج فترات حكم العسكر، ولم تغب الرقابة في كلتا الفترتين إلا أن الإبداع هنا تغلب على القيود لتوصيل الرسالة: ستتنكرون أيها العسكر لطبقتكم الوسطى وستخلقون طبقة جديدة تكون حكراً عليكم، أما من يعرف الحقيقة فيكم ويعرف وضاعة منهجه فسينتحر كما انتحر حسنين في نهاية الرواية. الإبداع = قراءة للماضي ومعايشة للحاضر واستشراف للمستقبل وتغلب على القيود. أرسل مقالك للنشر هنا وتجنب ما يجرح المشاعر والمقدسات والآداب العامة [email protected]