لم أستطع ان امنع نفسي من الابتسام وأنا أشاهد يوم الثلاثاء الماضي، ولأول مرة، مبني قناة الجزيرة، فها أنا ذا أقف أمام المبني الذي وصفه الرئيس المصري ب علبة الكبريت ، عندما زاره، وقد أطلق الوصف وهو يبكت، ولعله يوبخ، وزير إعلامه في ذلك الحين الرائد صفوت الشريف، فعلبة الكبريت أصبحت حديث العالم، بينما تليفزيون الريادة الإعلامية، الذي يحتل مبني تاريخيا، يحمل اسم ماسبيرو، في واقع الأمر يشبه ناطحات السحاب، أداؤه بجوار الجزيرة يجعله في حجم عقلة الإصبع! كانت معلوماتي الأولية ان (الجزيرة) تقع في بناية من طابقين، واكتشفت انه طابق واحد فقط لا غير، وقد تتعجب عندما تعلم ان نجوم (القناة) ليست لهم مكاتب داخلها، وان فيصل القاسم صاحب اشهر برنامج تليفزيوني في الوطن العربي، ومن الخليج الثائر الي المحيط الهادر، يأتي الي المبني في يوم إذاعة البرنامج ويحتل هو وضيفاه مكتب أحد قيادات القناة، ليكتشفا انه ضيف مثلهما. وقد حاول ان يطلب لنا قدحين من الشاي، أو حتي السم الهاري، لكنه لم يجد من يقوم بهذه المهمة، وتذكرت علي الفور كيف ان مبني ماسبيرو يوجد به مطعم خمس نجوم، ويطل علي النيل، وفي كل طابق به توجد كافتيريا، لتقديم المشروبات، والوجبات السريعة.. أرزاق! (الجزيرة) أصبحت معلماً من معالم الدوحة، وقد روي لي أحد القطريين كيف ان أصدقاءه الذين قدموا من ألمانيا كانوا حريصين علي زيارتها، وسعدوا عندما تم منحهم فناجين مكتوب عليها اسم القناة. والجزيرة أكدت أن نيل المطالب ليس بالتمني، ولكن تؤخذ الدنيا غلابا، كما أكدت ان قيمة الدول ليست مستمدة من كثافتها السكانية، او مساحتها الجغرافية، ولكن في قدرة أولي الأمر فيها علي الخلق والإبداع، وان يعيشوا عصرهم بعقولهم، وليس بأجسادهم فقط! لقد تم بث برنامج (الاتجاه المعاكس) من الأستوديو القديم، وكنت قد شاهدت الأستوديو الجديد قبل ذلك، فالجزيرة طبعا بمناسبة تشريفي لها دشنت أستوديو جديدا، وفيصل القاسم تقرر منحه مكتبا داخل القناة، وبعد تسع سنوات خدمة، والخير كما يقولون علي قدوم الواردين، لكن لان الحلو لا يكتمل، فقد تم تخفيض مدة البرنامج الي خمسين دقيقة، ويشاء السميع العليم ان تكون الحلقة التي شاركت فيها، هي الأولي التي يتم تطبيق هذا القرار الهمايوني عليها، الذي لم اهتم بمعرفة صاحبه، ولكني دعوت الله في سري ان يتم (تفنيشه) في القريب العاجل، لانه جعلني أتحدث بسرعة البرق الخاطف، حتي أحيط بالموضوع من كل جوانبه، وقد اكتشفت بعد ان فات الميعاد علي رأي الست ام كلثوم ان هناك أمورا مهمة لم أتعرض لها في موضوع الحلقة! كان أهم شيء شغلني بمجرد ان حللت بالدوحة هو معرفة الإجابة علي سؤال يتردد في الشارع المصري، وهو: هل باعت الجزيرة القضية؟ وكان أحد مواقع الإنترنت المتخصصة في الهجوم علي القناة وأصحابها قد ذكر ان صفقة أبرمت بين أصحاب المحطة والنظام المصري، توقفت بمقتضاها عن تغطية انتفاضة الشارع المصري، بالشكل اللائق، وقامت إحدي الصحف المستقلة بنشر نفس الخبر تحت عنوان موحِ: انسوا قناة الجزيرة ، وقد نفي حسين عبد الغني مدير مكتبها بالقاهرة في حوار اجرته معه جريدة المصري اليوم ، ومن خلال مقال له نشرته جريدة العربي هذا الكلام، وهي المرة الأولي التي يتحرك فيها بهذه القوة ليرد علي خبر منشور عن قناته. مثلي لا يمكن ان يستوعب ان تستجيب الدولة صاحبة القناة لاية ضغوط، فلو كان من الممكن ان تفعل هذا، فإنها كانت قد أغلقت أبوابها منذ الشهور الأولي لبث إرسالها، فضلا عن ان النظام القطري وان كان قد فشلت كافة المحاولات لابتزازه ولي ذراعه فيما يختص بأداء الجزيرة في البداية، فان من غير المنطقي ان يخضع بالقول بعد ان اصبح لسان حاله: (ياما دقت علي الرأس طبول). لكن في المقابل، فان تغطية (الجزيرة) للأحداث التي تشهدها مصر في الآونة الأخيرة، يؤكد ان في الأمور كما يقولون أمورا، لدرجة ان قناة (الحرة) الأمريكية تفوقت عليها.. دعك من قناة (العربية)، فقد رفع القلم عن النائم حتي يستيقظ! كان يمكن لمثلي ان يتصور ان المشكلة في مكتب (القاهرة)، وهو مثله مثل غيره من مكاتب الفضائيات لا يشير الي أي خبر من شأنه ان يعكنن من العكننة علي المزاج الرائق لسماحة الوزير صفوت الشريف، ولدرجة ان هناك أربعة أحكام قضائية صدرت بإلغاء القرار الذي اتخذه بتنصيب أحد الأشخاص رئيسا لحزب معارض، ولم تشر إليه اية محطة، فحتي مراسل الحرة علم ولم يبلغ!.. وقد يكون صفوت المذكور قد قام بإعمال سياسة تجفيف المنابع بصفقة مع عبد الغني من وراء ظهر إدارة القناة! لكن من شاهد موقعة الجمعية العمومية لقضاة مصر، سيقف بسهولة علي ان هناك خللاً ما، ليس مسؤولا عنه مدير مكتب القاهرة، فقد تم اعتقال فريق العمل في المكتب المكلف بنقل وقائع الجمعية علي الهواء مباشرة، وقد أرسل عبد الغني خبرا بالفاكس الي غرفة الأخبار بالواقعة فلم يتم الالتفات إليه، وعندما قال هذا في اتصال هاتفي علي الهواء، تم التعامل معه علي انه تمضمض باللبن الحليب، واخطأ في ذات المسؤول عن غرفة الأخبار، ومن الواضح ان ذاته كذات الملوك مصونة لا تمس، علي الرغم من ان الجزيرة تنتمي الي مدرسة ال (بي. بي. سي)، ومثل هذا التصرف، وان كان علي الهواء، لا يمثل مشكلة تستدعي الغضب للشرف الرفيع، الذي لا يسلم من الأذي حتي يراق علي جوانبه الدم! منذ سنوات كان أحد المذيعين، لعله محمد الأزرق، يقرأ نشرة الأخبار في الإذاعة البريطانية، وبعد ان انتهي من قراءة عناوين الأخبار كان من المفروض ان يتبعه فاصل موسيقي، لكن من الواضح ان المسؤول عن ذلك كان قد سرح بخياله في بنت الجيران فلم يفعل، وعندها قال الأزرق: نأسف لهذه المهزلة. وهناك وقائع كثيرة ومتشابهة في هذا المضمار. لقد قيل ان هناك قرارا صدر بإيقاف حسين عبد الغني عن العمل الي حين عودة وضاح خنفر من الخارج، وعرض الأمر عليه، والتحقيق في تلك المهزلة، ولا ندري ما الذي جري بعد ان عاد، فقد عاد مدير مكتب القاهرة لشاشة القناة يوم الاستفتاء، ويا دار ما دخلك شر. الجزيرة كانت قد أعلنت أنها ستنقل علي الهواء مباشرة الجمعية العمومية للقضاة، التي قرروا فيها مقاطعة الإشراف علي الاستفتاء الرئاسي، والانتخابات البرلمانية مالم يتحقق لهم الإشراف الكامل علي العملية الانتخابية، وقبيل الانعقاد كانت تنوه عن ذلك، ثم فجأة لا حس ولا خبر، ودون اعتذار مسبب، فقد توقف التنويه، وتم عرض فيلم تسجيلي، وكنت قد علمت عبر آخرين انه تم اعتقال طاقم الجزيرة بربطة المعلم وخطفه الي مقر مباحث أمن الدولة، ليتم الإفراج عنه بعد ان ألقت الجمعية العمومية ما فيها وتخلت. إذا كانت هناك ثمة صفقة بمقتضاها باعت (الجزيرة) القضية، فإنها لم تكن لترسل فريقا لنقل اجتماع القضاة علي الهواء مباشرة، لتصبح أجهزة الأمن مضطرة للحيلولة دون ذلك باعتقال الطاقم، في حركة مثلت فضيحة من العيار الثقيل. ولان الأمر يبدو عصيا علي الفهم، فقد كان هذا الموضوع هو أهم ما شغلني منذ ان وصلت الي الدوحة، مدفوعا بفضول الصحافي، الذي تعد المعلومة ضالته، ومدفوعا كذلك بالأمانة التي حملني إياها كثير من الزملاء، منذ ان علموا بدعوتي للمشاركة في برنامج (الاتجاه المعاكس) من استوديوهات القناة في قطر، وقد استمعت نفيا كاملا لما نشر. وفي الواقع فإنني استبعد الصفقة التي قيل ان المستشار السياسي للرئيس مبارك الدكتور أسامة الباز أبرمها، وان كان ما شغلني هو أسباب هذا القصور او التقصير في التعاطي مع أحداث القاهرة. في ظهر الثلاثاء رأيت علي شاشة الجزيرة واقعة لا تخلو من دلالة، تمثلت في نقل مباشر لمؤتمر حزب الاتحاد السوداني الذي يرأسه الميرغني من القاهرة، وظننت للوهلة الأولي ان القيامة قد قامت، او ان النظام المصري أعلن ضم السودان للسيادة المصرية، وان الميرغني سيعلن دعمه وتأييده لهذا القرار، وربما لان الخطاب الذي كان يلقيه رئيس الحزب ستتبعه عملية انتحار جماعي للحاضرين.. لأنني لا اظن ان مؤتمرا كهذا يستحق قطع الإرسال ونقله علي الهواء مباشرة، وكأنه مناسبة تاريخية، وفتحا مبينا في حد ذاته! في المكتب الذي كان يجلس فيه الدكتور فيصل القاسم ضيفا مثلنا، كان صاحب المكتب جالسا، وقد قلت في عقل بالي انه ما دام صاحب مكتب فهو بالتالي مسؤول بالقناة، وعلي الرغم من ان الدكتور فيصل عرفني به إلا أنني لم انتبه للاسم او التعريف وقد انطلقت اسأله لعلي أجد عنده إجابة علي السؤال، لكنه تعامل معي علي أساس انه (يتهيأ لي) أي أتصور أشياء لا أساس لها، ولولا ان كثيرين يتفقون معي لذهبت الي مستشفي أبو العزايم للأمراض النفسية لاطلب العلاج من مرض الوهم.. او التوهم! فأنا ربما بنيت هذا التصور لان الجزيرة تنقل وجهة النظر الأخري، وقلت له أنني لا أمانع في استضافتكم المتكررة للدكتور مصطفي الفقي عن الحزب الحاكم ليلت ويفت، ويخرج عن الموضوع دون ان يستوقفه المذيع او يقاطعه او يسحبه الي القضية محل النقاش. ولا أمانع في التعامل مع المسجلين خطر الذين يسحبهم الحزب الحاكم لمظاهرات حركة كفاية، علي انهم يعبرون عن شعبية السلطة، وتسليط الكاميرات عليهم حتي يتأكد المشاهد أنها مثل زبد البحر، فالذي اقصده هو تجاهل كثير من الفاعليات، واختزال بعضها، والتعامل بعدم اكتراث مع ما يتم نقله! ولم يوافقني، وبالتالي لم أوافقه علي أنني (اتوهم)، وقد سعدت سعادة بالغة لان هذه القضية شغلتني عن التفكير في أنني ضيف (الاتجاه المعاكس)، وانا الذي سقط قلبي في حذائي.. من جراء الخوف، من فكرة ان أكون علي الهواء مباشرة، فالهواء غلاب.. ويا للهول! أرض جو بعد قرارها بإغلاق مكتب قناة الجزيرة، تستحق طهران عضوية الجامعة العربية، لنصبح بوجودها بيننا أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة. إبراهيم الجعفري منح الجزيرة وساما باتهامه لها بتشجيع الإرهاب.. مبروك! ---- صحيفة القدس العربي اللندنية في 27 -6 -2005